أنهى وزراء الخارجية العرب في اجتماعهم الطارئ خرافة عملية سلام الشرق الأوسط، بإعلان النظام الرسمي العربي، ممثلا بالجامعة العربية، وفاة عملية السلام، أخيراً ترجم وزراء الخارجية العرب نبض الشارع العربي إلى كلمات صريحة، فالحرب الإسرائيلية المعلنة على لبنان وقبلها "أمطار الصيف" الإسرائيلية على غزة، مفردات دموية تستدعي القواميس العسكرية والاستراتيجيات الحربية قبل أن تستدعي مفردات الدبلوماسية المقبورة في الشرق الأوسط. سقط عشرات القتلى من المدنيين حتى اليوم، تم استهداف البنى التحتية اللبنانية، فُرض الحصار براً وبحراً وجواً... صور تعيد الذاكرة الجماعية لحصار بيروت عام 1982، فبعد عملية نوعية في العمق الإسرائيلي نفذتها حركة المقاومة أسفرت عن أسر عسكري إسرائيلي، أمطر الجيش الإسرائيلي قطاع غزة بمدفعيته وطائراته لتدمير البنية التحتية الفلسطينية، فاقتحم المدن الفلسطينية في الضفة العربية وقطاع غزة وفرض حصاراً سيدخل أسبوعه الرابع. وفي صباح الأربعاء الماضي قام "حزب الله" بمغامرة عسكرية مقتحماً الحدود الإسرائيلية في هجوم على موقع عسكري إسرائيلي. وقتل خلال هذا الهجوم عدداً من الجنود الإسرائيليين وأسر جنديين آخرين. حرب شاملة تشنها إسرائيل على لبنان وصلت إلى مشارف الحدود السورية مهددةً بتوسيع الحرب بجر أطراف إقليمية لمستنقعاتها باستهداف الحدود السورية أو باتهامات بمشاركة عناصر عسكرية إيرانية في ضرب البارجة الإسرائيلية... كل ذلك استدعى موقفاً عربياً تشكل بداية بتصريح سعودي جاء فيه "لا بد من التفرقة بين المقاومة الشرعية، وبين المغامرات غير المحسوبة التي تقوم بها عناصر داخل الدولة ومِنْ ورائها دون رجوع إلى السلطة الشرعية في دولتها، ودون تشاوُر أو تنسيق مع الدول العربية، فتوجد بذلك وضعاً بالغ الخطورة يعرِّض جميع الدول العربية ومنجزاتها للدمار"، تلاه بيان أردني- مصري مشترك، ثم انضمت دول عربية لقافلة اللوم والتقريع لـ"حزب الله"، لغة جديدة ومشهد سياسي جديد أخذ بالتشكل، تطورات متسارعة تستدعي التوقف ومحاولة الفهم. إن فهم ما يحدث اليوم في الشرق الأوسط يتطلب النظر إلى دوائر متداخلة من المصالح الدولية والإقليمية، وقبل كل ذلك مصالح أطراف الصراع الرئيسية، على الجانب الفلسطيني: السلطة الوطنية الفلسطينية ومعها "حماس" والفصائل الفلسطينية الأخرى وقبلهم الشعب الفلسطيني، على الجانب اللبناني: "حزب الله" والحكومة اللبنانية والشعب اللبناني، في مقابل الحكومة الاسرائيلية. دوائر إقليمية تتداخل مع ملفات ساخنة كفيلة بإشعال المنطقة لسنوات؛ الملف النووي الإيراني والحرب الطائفية بالعراق، الملف السوري، وقبل كل ذلك الفشل الأميركي الذريع في الشرق الأوسط على مستوى العراق وأفغانستان وفي الحرب على الإرهاب ونشر الديمقراطية في الشرق الأوسط... تساؤلات محمومة تستدعي إجابات واضحة، فهل غامر "حزب الله" بتغيير قواعد اللعبة كما جاء على لسان أمينه العام نصر الله؟ هل استغل "حزب الله" انشغال إسرائيل بجبهة الجنوب حتى يمارس ضغوطات كان مخططاً لها أن تنهي معاناة الأسرى اللبنانيين في السجون الإسرائيلية؟ وهل كان الهدف الأساسي للعملية هو المقايضة فقط، لا إخراج الوحش العسكري الإسرائيلي من قمقمه؟ وهل الهدف من العمليات العسكرية الإسرائيلية تحرير الأسرى، أم توجيه ضربات وقائية لمنع أي عمليات خطف وإطلاق صواريخ في المستقبل؟ وهل الهدف هو "حزب الله" أم لبنان أم كلاهما؟ هل لإسرائيل مصلحة مباشرة في إشعال الحرب وتغيير قواعد اللعبة؟ إن القراءة السياسية للعملية العسكرية الإسرائيلية تشير إلى أن أهدافها أوسع مما ذكر، فصداع الشمال الإسرائيلي مازال مستمراً منذ انسحاب صيف عام 2000، من ناحية عسكرية يعتبر احتمال نجاح العمليات العسكرية في إعادة الجنود الأسرى ضئيلاً. كما أن الحرب لم توجه لضرب قواعد "حزب الله" ومقاره في الجنوب، بل امتدت لكامل التراب اللبناني، فيما يعتبر رسالة واضحة للحكومة اللبنانية لإجبارها على نزع سلاح "حزب الله" بتحميله مسؤولية الحرب الإسرائيلية. لقد وضع رئيس الوزراء الإسرائيلي، إيهود أولمرت، شروطاً لوقف إطلاق النار هي إعادة الجنديين الأسيرين من قبل "حزب الله"، وإيقاف الحزب إطلاق الصواريخ على إسرائيل وتطبيق قرار مجلس الأمن 1559 الذي يقضي بنزع سلاح الميليشيا المسلحة في لبنان وعلى رأسها "حزب الله". لقد رمت الحكومة الإسرائيلية بكامل ثقلها لدعم الحرب على لبنان في الوقت الذي تواجه فيه هذه الحكومة إشكالية التوقيت وفتح جبهات مختلفة في الشمال والجنوب، فهي تواجه صعوبة في استمرار عمليات ضغط من دون التورط والانجرار إلى مستنقع الدخول إلى غزة، في الوقت الذي فتحت فيه جبهة في الشمال اللبناني، فمالم تحقق هذه الحرب نتائجها المرسومة بسرعة ستواجه علامات استفهام سواء على جبهتها الجنوبية أم الشمالية. ورغم تصنيف إسرائيل للحملة في لبنان على أنها عملية، فإنها في الواقع حرب بكل معنى الكلمة. إن الهدف الاستراتيجي لإسرائيل من وراء مغامرتها المحسوبة النتائج في لبنان هو إقرار قواعد جديدة للعبة يغيب عنها التهديد الناشئ من قواعد "حزب الله" في جنوب لبنان، وتغيير النظام الحدودي الشمالي من خلال ممارسة ضغوطات دموية على الحكومة اللبنانية لإجبارها على إبعاد "حزب الله" عن حدودها الشمالية، حرب سببت هزة سياسية عنيفة للحكومة والشعب اللبنانيين أشعلت أسئلة محرمة في الشارع اللبناني حول جدوى مغامرات "حزب الله" التي جرت لبنان لحرب شاملة. تعرف الحكومة الإسرائيلية أن الشعب اللبناني لا يريد لدولته أن تجر لحرب تعيد سيناريوهات دموية لم تتعافَ من بشاعتها البلاد، إسرائيل تريد إضعاف حزب الله عسكريا وسياسيا، فكل ما يمت لحزب الله هو هدف مشروع، المواقع العسكرية للحزب، مكاتب الحزب، إذاعة المنار التابعة للحزب، قرى. لقد انطلقت إسرائيل من شرعية القرار الدولي 1559 لتضرب حركة "إرهابية" حسب التصنيف الأميركي وتصنيف غالبية الدول الأوروبية، الرد الإسرائيلي تعدى الجنوب، فلو اكتفت إسرائيل كعادتها بضرب الجنوب اللبناني لما وجدت نفسها في مواجه استنكار دولي وإقليمي، لكن توسيع الحرب على لبنان يحقق أهدافاً استراتيجية لم تكن لتتحقق بدون ضرب البنية التحتية والمطار والسياحة والاقتصاد المركزي، ممارسة الضغوط القصوى على القوى اللبنانية من طوائف وأحزاب بهدف دفعها للعمل بصورة أكثر حزماً لنزع سلاح "حزب الله" وإخلاء مناطق الحكم الذاتي التي أقامها هناك له. تصاعدت لهجة تحميل "حزب الله" مسؤولية ما حصل في لبنان إقليمياً ودولياً، وحقيقة أخطأ "حزب الله" في قراءة المشهد السياسي، فرغم أن العملية ليست معزولة في تاريخ الصراع مع إسرائيل، ولطالما كانت المقايضة أسلوباً ناجحاً، فإن إسرائيل في الماضي قد استخدمت دبلوماسية الأبواب الخلفية من أجل تبادل الأسرى، لكن ما كان يصح في أوقات احتلال الجنوب لا يصح في أوقات السلم، وبدلاً من أن يعمل "حزب الله" على تقوية الحكومة اللبنانية، مارس صلاحيات الدولة، فهو الذي يعود إليه الفضل الأول في انسحاب إسرائيل من الجنوب اللبناني سقط اليوم سقطة مدوية، ولذلك فإن تصرفه في أسر الجنديين الإسرائيليين يظل غير مسؤول، وضربة قوية للحكومة اللبنانية التي ظلت تدعم "حزب الله" على كافة المستويات. فهل تستطيع الحكومة كبح جماح الحزب؟ لقد خلقت الحرب حقائق جديدة على الأرض وأسست لمشهد سياسي جديد في الشرق الأوسط، ستحقق إسرائيل هدفها الاستراتيجي في تأمين حماية دائمة لحدودها الشمالية، بقرار لبناني أو بقرار من مجلس الأمن، لم تكن الحرب لعبة لإسرائيل بل خدعة سقط فيها حزب الله.