مفارقات الحرب الحالية, بفرعيها في فلسطين ولبنان, أكثر من أن تجمل في قراءة موجزة. بيد أن القاسم المشترك الأهم لهذه المفارقات هو الهشاشة الفائقة للنظام العربي, الرسمي والشعبي, الذي من المفترض أن يكون الإطار المتماسك الذي يحقق مصالح وأهداف الشعوب والمجموعات السكانية التي يمثلها وحيث تكون وظيفته الدفاع عنها. وهذه الهشاشة تعمل على ما يلي: تغري الخصوم بافتراس الوضع العربي أو أجزاء منه في أي وقت ومن دون أي رادع, كما هو حاصل الآن في لبنان, وتدفع بالغالبية الشعبية إلى حد "الكفر السياسي" بالنظام القائم, لأن هذا النظام يفشل في كل مرة في الدفاع عن مصالح وأهداف تلك الغالبية, ولايزال يعيد كشف هشاشته المتزايدة في الضعف مرحلة بعد مرحلة. وهكذا نصبح أمام حالة شبه فريدة لكن بائسة في التسييس الإقليمي والدولي, حيث نرى سيولة خطرة وتلاشيا تدريجيا للأطر الدولية التي تحدد مفاهيم وتعاقدات الدول مع أفرادها. وبذلك ينزع هؤلاء الأفراد, وفي سياق يخفه الإحباط واليأس المخيفين, للنظر خارج الحدود ومنح الولاء لمن يرون فيه وفي تسييسه وفيما يتبدى عنه من دفاع ومقاومة يرونها تمثلهم وتعكس غضبهم. ولنا أن نتوقع أنه في سياقات الإحباط واليأس والطرق المغلقة, على مستوى الصراعات خارج الوطن, وفي سياق الاستبداد والفساد وفشل النخب الحاكمة داخل الوطن, تمرير أجندات سياسية لا تعبر بالضرورة مكاناً وزماناً عن جوهر المصالح والطموحات الآنية. أي أن اللاعبين الإقليميين والدوليين يمكنهم أن ينخرطوا بسهولة في الصراعات والسياسات العربية وتوظيفها بالإتجاه الذي يريدون. لكن ذلك لا يتم التوقف عنده شعبياً بسبب أولوية الإحباط واليأس والبحث عن رد الكرامة. الدولة العربية من مشرق العالم العربي إلى مغربه فشلت في أن تتحقق بتعريف الدولة الجوهري, كإطار حاضن لمكونات الوطن ومدافع عنها ومنظم للصراعات فيما بينها بطرق سلمية. ولأن المنطقة العربية ظلت في مرحلة ما بعد الاستقلال تعاني من التدخلات الأجنبية العسكري منها والسياسي, فإن ذلك أضاف إلى الفشل الذاتي أبعاداً أخرى عمقت من تناقض الدولة مع أفرادها. وظلت فكرة قيام إسرائيل واستمرار وجودها ثم إهاناتها المستمرة للعرب حرباً وسلماً تمثل المطعن الأهم في شرعية النظام العربي برمته في عيون أبناء المنطقة. فقد نشأ هذا النظام, كما يستبطن الوعي الجماعي العربي, بالتوازي مع نشوء الدولة الإسرائيلية, وكأن العلاقة بين المشروعين علاقة تكامل وليس تناقض. وجاء الدعم الغربي, وخاصة الأميركي, غير المحدود لإسرائيل على حساب العرب ورغم العلاقات العربية الغربية القوية والتحالفية ليزيد من غربة النظام العربي عن شعوبه. فالغرب هو القابلة القانونية لإسرائيل, وهو الداعم الأساسي والدائم لها حرباً وسلماً, وكذا هو الغرب الداعم الأساسي للنظام العربي القائم الذي تربطه مع نخبه ورسمييه علاقة إلحاقية ليس فيها أية ندية توفرها لهم ثرواتهم ومصالح الغرب الحيوية في منطقتهم. خلاصة ذلك أن غالبية الشعوب العربية تنظر إلى الدول العربية منفردة على حدة, ومجتمعة ككل, باعتبارها فشلت في تحقيق أوليات وظائف الدولة, قديما وحديثاً, وهي وظائف تحقيق الأمن والاستقرار لمواطنيها, ثم العدل والإنصاف وتوزيع الثروة. كما لم يستطع النظام العربي في حقبة ما بعد الاستقلال القائم على أساس الدول العربية المستقلة, ومرة أخرى بسبب تحالف الضغط الأجنبي مع الفشل الداخلي, أن يكرس فكرة الدولة الوطنية بعيداً عن بعدها القومي العربي. فشعور العرب بأنهم أمة عربية واحدة والوجدان العربي والمشاعر العربية المشتركة ظلت وما زالت قوية كما كانت دوماً, رغم الجروح والندوب التي تركتها تجارب القومية السياسية الحزبية, البعثية منها على وجه الأخص. وبسبب هذه المشاعر المتأججة والوجدان الشعبي الملتهب والمشترك فإن النخب السياسية للدول العربية ظلت مرتبكة في كيفية التعامل مع ما هو عربي ومع ما هو وطني من شؤون. تفاقمت المشكلة بالطبع عبر أكثر من ستة عقود من الفشل المتراكم. فقد كان شلل الدول العربية كل على حدة, ونظامها الجامع كتكتل عام, قد فتح الأبواب على مصاريعها لكل الاحتمالات الولائية العابرة للحدود, خاصة وأن الدولة الوطنية لم تترسخ, ولا المطامح القومية تحققت. على خلفية ما سبق يصبح ليس من السهل الاستخفاف بالمزاج الشعبي العارم في طول وعرض العالم العربي الذي نظر إلى ما قام به "حزب الله" في جنوب لبنان, و"حماس" في غزة, من أسر لجنود إسرائيليين ثم الانخراط في مواجهات عسكرية دموية على أنه بطولة ورد لكرامة تعودت الأنظمة العربية على هدرها في الصراع مع إسرائيل. وكذا من الخطأ محاولة فهم الوضع الشعبي الراهن بمسطرة الأرباح والخسائر: مقولة إن أسر ثلاثة جنود إسرائيليين جرت كل هذا الدمار الذي لحق بالفلسطينيين واللبنانيين– رغم أنها محقة تماماً من ناحية عقلانية باردة. لكن الخط العام للمزاج الشعبي السائد اليوم هو التأييد العام وإسقاط التحفظات التي يمكن أن تُثار على سلوك "حماس" و"حزب الله" العسكري إن لناحية التوقيت, أو حساب الكلفة الإستراتيجية, أو الشعبية, أو حتى التوظيف الإقليمي. والمسألة هنا يمكن إنهاؤها بإلقاء اللوم على ذلك المزاج ونقده باعتباره غير عقلاني وعاطفي ولا يلقي بالاً للخسائر طويلة الأمد. لكن هذا تسطيح غير مبرر لوضع أكثر تعقيداً. فالرأي العام وفي الظروف الطبيعية ينحو منحى عقلانياً وراشداً، بوصلته المصلحة والأهداف قصيرة الأمد. لكن عندما يقرر رأي عام ما أن يضحي بمصالح جلية ويقدم عليها أهداف وإصرار لا يُقاس بمسطرة المصلحة البراغماتية الصرفة فمعنى ذلك أننا أمام وضع موضوعي تمت إزاحته عن سِكته الطبيعية، ودفعه للتطرف والراديكالية بشكل متواصل ومتراكم وخطير. وهذا ما نقوله لكثير من الغربيين في مؤتمرات وندوات تبحث في "أسباب تطرف وعاطفية الرأي العام العربي". فهذا الرأي العام وشعوبه أخضعت لعملية إذلال تاريخي على مدار قرنين من الزمان, توجت بإقامة إسرائيل في قلب المنطقة العربية, ثم تلاها تحكم شبه مطلق بمصائر وحواضر البلدان العربية, وسلاسل من الحروب التي لا تنتهي, التي عمقت من الشعور بالمهانة والهزيمة. وكان أن لعب الغرب ولا زال دوراً يجذر كل بذور التطرف, عن طريق التعامي عن كل ما يفعله المجرم وملاحقة الضحية عوض ذلك. كل ذلك حدث وكان يحدث وما زال يحدث في ظل نظام عربي قام على شرعيات مشكوك فيها, وعوض أن يقوم ذلك النظام بسد النقص في الشرعية عن طريق تحقيق إنجازات وطموحات الشعوب التي يعبر عنها, فإنه فاقم من ذلك النقص عن طريق تكلسه وحياديته التي فجرت غضب شعوبه عليه. ما نراه اليوم من عجز تام لهذا النظام العربي, ومحاولة التعبيرات الشعبية تجاوزه وتركه خلفها هو خلاصة عقود متتالية من الانفصام المتراكم بين الإطار, النظام العربي, وما يفترض أن يكون بداخله ويدافع عنه, أي الشعوب.