أبت إسرائيل إلا أن تعيد، مرة أخرى ومرات، تذكير العالم أجمع بهمجيتها واستحالة تحولها إلى دولة مسؤولة، تستطيع التعايش في سلام أو هدنة على الأقل، مع بقية دول المنطقة. فالحملة العمياء التي تشنها الآلة العسكرية الإسرائيلية الآن على لبنان، وتشنها على قطاع غزة منذ أشهر، لا يوجد ما يبررها بأي وجه، لا سياسياً ولا أمنياً. فاختطاف الجندي الإسرائيلي "جلعاد شاليت"، لم يأتِ بمبادرة من السلطة الفلسطينية الرسمية، وبكل تأكيد لم يكن بأيدي الأرامل والأطفال الرضع والمسنين العزل الذين تحصدهم الآن بالمئات، وبكل جبن ونذالة، طائرات جيش العدوان الإسرائيلي، صباح مساء. والدولة اللبنانية المستقلة، ذات السيادة، لم تهاجم إسرائيل، ولم تختطف اثنين من جنودها، بل هي من ظل على الدوام عرضة للعدوان الإسرائيلي المتواصل، وهي التي أحرق الحقد الإسرائيلي سنة 1982 عاصمتها بيروت، وارتكب بحق مواطنيها العزل فظائع ما زال جبين الإنسانية يندى لها. وحده، الحقد الأعمى، وهلاوس القوة المفرطة، وجنون العظمة، وأيضاً خِسة الإحساس بإمكانية الإفلات من العقاب، هي ما يمكن أن يفسر حجم هذا الهجوم الإسرائيلي الشامل على لبنان، لتدمير بنيته التحتية، ولتشريد سكان جنوبه، ولتدمير اقتصاده، وإعادته إلى مربع أيام القلاقل والحروب الأهلية، وصور معاناة ما قبل إعادة الإعمار. وعدا ذلك، فلا معنى آخر، منطقياً ولا سياسياً، لهذا الهجوم العدواني الإسرائيلي المسعور، وهذه الحملة الظلامية الاستعراضية الدنيئة. لقد ارتكبت منظمة "حزب الله" خطأ كبيراً جداً ولو قيل إن هذا ليس وقت اللوم، فإنه أيضاً ليس وقت المجاملة، بتسببها في هذه المواجهة الحالية المغامِرة. ما في ذلك شك. فذلك الحزب مهما كانت مشروعية القضية التي يقول إنه يقاتل من أجلها من تحرير لمزارع شبعا وسعي لتحرير الأسرى اللبنانيين في سجون الاحتلال إلى آخر ما هنالك لا يحق له بأي وجه كان أن يشق الصف الوطني اللبناني، ولا أن ينفرد باتخاذ قرارات إعلان الحرب والسلم وبهذه الطريقة المفاجئة، مع كيان عنصري عدواني يمتلك قوة مفرطة ورغبة لا متناهية في التدمير والتخريب. وحجج "حزب الله" هنا مدموغة، وغير مقنعة، على الأقل. فعنوان الدفاع عن الوطن في كل بلاد الأرض معروف، وهو الاتجاه إلى الشرعية والقنوات الرسمية المؤسسية القانونية للدولة. ولذا كان على مقاتلي "حزب الله" أن يدخلوا في سياق شرعية مفهومة، ومتعارف عليها، حتى لا تؤدي مبادرة فردية أو قرار طائش هنا أو هناك، من قبلهم، إلى قذف لبنان كله في كف عفريت، لا قدر الله، وأخذ شعبه الأعزل رهينة بين قطبي رحى لا تبقي ولا تذر، ثم الإطباق على المنطقة جميعاً بنذر مواجهة عاصفة لا أحد يعرف، حتى الآن، عند أية حدود ستقف. لقد أدى تفاعل الأزمتين الفلسطينية واللبنانية معاً إلى حالة إلغاء حقيقي لفرص الاستقرار الإقليمي. فمخاطر تفكك التحالفات الممثلة في الحكومة اللبنانية، واعتقال حكومة حركة "حماس" عن بكرة أبيها تقريباً، وتدخّل إيران بقوة على خط الأزمة، كل ذلك يفترض الآن أن يدفع القيادات العربية الفاعلة إلى أن ترتفع إلى مستوى التحدي، بصراحة شديدة. فمهما اقتضت دواعي الدبلوماسية والعمل على إجهاض أي اصطفاف دولي وراء إسرائيل، فإن كل ذلك لا يعفي الزعامات العربية من تحمل مسؤوليتها التاريخية لتحجيم الهمجية الإسرائيلية التي لا تردعها أخلاق، ولا توقفها عند حدودها شرعية، ولا مكان في قاموسها لغير منطق القوة وجنون العظمة والعربدة، والبطش بالعزل والأبرياء.