يبرز أمر لافت نلمسه بشكل خاص في الوضع المتفجر حالياً بمنطقة الشرق الأوسط يتمثل في عدم قدرة الولايات المتحدة على التدخل لحل الأزمة، وعجزها عن القيام بذلك دون التسبب في تدهور الأوضاع أكثر والدفع بها إلى مزيد من السوء والتردي. وعموماً فإن ما يلاحظ هو إمساك أعداء الولايات المتحدة وحليفتها إسرائيل بخيوط المبادرة وتحكمهم في مجريات الأمور منذ شهور عدة. فإيران تفرض وتيرتها الخاصة في قضية الانتشار النووي بينما تكتفي الوكالة الدولية للطاقة الذرية، فضلاً عن الولايات المتحدة والدول الأوروبية، برد الفعل دون التوصل إلى نتيجة مرضية. وفي الوقت الذي يتحدث فيه الأميركيون ومعهم الإسرائيليون عن توجيه ضربة عسكرية لإيران تعرف هذا الأخيرة أن التهديدات مجرد جعجعة تصدرها إدارة أميركية تعرف جيداً النتائج التي يمكن أن تترتب على تحرك عسكري في منطقة مضطربة مثل الشرق الأوسط. أما الفلسطينيون فقد بدأت أزمتهم الحقيقية عندما أخذوا كلام الرئيس بوش حول الديمقراطية على محمل الجد ودفعوا بـ"حماس" إلى السلطة ما أدى إلى سعي أميركا وإسرائيل إلى إسقاط الحكومة وقلب نتائج الانتخابات الديمقراطية. وكأن ذلك لا يكفي فقد قام المسلحون الفلسطينيون الذين دأبوا على إطلاق الصواريخ على إسرائيل بعملية عسكرية نوعية أسفرت عن اختطاف جندي واتخاذه أسيراً. ومرة أخرى لجأت إسرائيل إلى رد فعل قاسٍ تمثل في تدمير نصف البنية التحتية لقطاع غزة وقطع الإمدادات عن السكان في محاولة لاستفزازهم وإنزال العقاب بهم. ثم رأينا كيف دخل "حزب الله" على الخط عندما نفذ هجوماً عسكرياً من جنوب لبنان استطاع من خلاله أسر جنديين إسرائيليين ليطلق رد فعل آخر من الدولة العبرية التي قصفت لبنان واخترقت الحدود، علماً بأن ذلك لن يساعد أبداً على استرجاع الجنديين الأسيرين لدى "حزب الله". هذا التخبط الذي تعيشه الولايات المتحدة حالياً واكتفاؤها بردود الفعل دون ممارسة تأثير فعلي، جعلها تخرج من دائرة الفعل والتأثير على الأطراف الفاعلة في المنطقة. وهذا ما التقطه "روبرت مالي" من "مجموعة الأزمات الدولية" الذي لاحظ أن إدارة الرئيس بوش: "حصرت نفسها في زاوية ضيقة تتمثل في فقدان التأثير على أي من الأطراف المؤججة للصراع سواء كان حزب الله، أو حماس أو سوريا أو إيران. وعندما ننظر إلى دعوة الولايات المتحدة الهزيلة للأطراف بضبط النفس فإن ذلك لا يرقى إلى التأثير الذي كان يفترض أن تمارسه أميركا في المنطقة". والواقع أن فقدان التأثير بات المعضلة الحقيقية التي تواجهها الولايات المتحدة في منطقة تحتاج فيها لنفوذ انحسر بسبب استنزافها لقوتها في العراق وأفغانستان. فقد احتكمت الولايات المتحدة تحت تأثير المتشددين في البيت الأبيض الذين يؤمنون بالقوة العسكرية إلى استخدام تلك القوة أولاً ضد مقاتلي "طالبان" من المزارعين الأفغان، وثانياً ضد جيش صدام حسين الذي استنفدت قوته وفقد حماسه. ورأينا أيضاً تلك القوة خلال العمليات التي قامت بها القوات الأميركية الخاصة أثناء تعقب الإرهابيين الإسلاميين سواء في العراق، أو أفغانستان. وبعد قتل عشرات الآلاف في تلك الحروب يحق لنا أن نتساءل هل ارتدع أحد عن مهاجمة الأميركيين؟ ويحق أن نتساءل أيضاً عن سبب ارتفاع عدد القوات الأميركية في العراق وأفغانستان في الوقت الذي تضعف فيه قبضة الولايات المتحدة في كلا البلدين. وبالنسبة للمسؤولين العسكريين في إسرائيل الذين يريدون إعادة عقارب الساعة في لبنان ثلاثين عاماً إلى الوراء بما يعنيه ذلك من عودة للاقتتال الداخلي بين الفصائل والطوائف المختلفة واجتياح إسرائيل للأراضي اللبنانية واحتلالها للمناطق المختلفة، ثم الفشل في السيطرة على البلد من خلال الميلشيات والمرتزقة العميلة الذي ستعقبه "هزيمة" إسرائيل المخزية وانسحابها من لبنان فإن كل ذلك لا يشكل سابقة مغرية لإسرائيل كي تكرر تجربتها الفاشلة مجدداً. ومن ناحيتها تجد الحكومة اللبنانية التي يشارك فيها "حزب الله" نفسها في وضع لا تحسد عليه بسبب الأحداث الأخيرة والقصف الإسرائيلي المتواصل. والأدهى من ذلك أنه إذا سقطت الحكومة اللبنانية بسبب الضغوط، أو الانشقاقات في صفوفها ستكون فرصة مواتية أمام سوريا لإعادة فرض نفوذها في لبنان، وتجميد قضية التحقيق في اغتيال رفيق الحريري. ولا يختلف الأمر كثيراً بالنسبة لحكومة إيهود أولمرت بسبب الوضع الذي أفرزه العنف في غزة والآن في لبنان وخوفها من خروج الأوضاع عن السيطرة الذي يظهر بشكل واضح في استدعاء جيش الاحتياط إلى الخدمة العسكرية. وربما كان تدمير السلطة الفلسطينية التي يقبع نصف أعضائها في السجون الإسرائيلية له بعض الجدوى قبل شهر بعدما كانت واشنطن وتل أبيب تسعيان لانتزاع اعتراف من السلطة الجديدة والضغط عليها لقبول الاتفاقات الموقعة مع إسرائيل. أما اليوم سيفتح انهيار السلطة الفلسطينية المجال أمام الفوضى التي ستعم قطاع غزة والضفة الغربية وأجزاء من إسرائيل حيث يوجد عدد مهم من السكان العرب. وهي الفوضى التي ستكون إسرائيل مجبرة على إخمادها وتحمل مسؤوليتها باعتبارها القوة المحتلة قبل أن تتسع دائرتها وتمتد إلى خارج الحدود. وفي غضون ذلك قام الجيش الأميركي بإصدار دليل حول كيفية التعامل مع حالات التمرد مثلما هو حاصل في العراق يوصي الجيوش التقليدية بنسيان ما تعلمته في الأكاديميات العسكرية وتبني طرق جديدة تمد يدها إلى المجتمع من خلال إعادة بنائه. ويوضح الدليل أن الحرب ضد التمرد تستغرق وقتاً طويلاً وتستدعي إرادة سياسية صلبة، فضلاً عن الكثير من الصبر وإنفاق المزيد من الجهد والموارد. ويحذر الدليل من أنه إذا فقدت القوات شرعيتها الأخلاقية فإنها ستخسر حربها ضد التمرد كما حصل مع الفرنسيين في الجزائر الذين انهزموا بسبب ممارستهم المنهجية للتعذيب. ـــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "ميديا تريبيون سيرفس"