ما حقّق مؤتمر دول الجوار العراقي بطهران ما كان مؤمَّلاً من ورائه. لقد كان المؤمَّلُ أن تحظى خطةُ نوري المالكي للمصالحة بأكثر من الدعم الشفوي. كما كان مؤمَّلاً فتح الطريق أمام الولايات المتحدة الأميركية للانسحاب من العراق. بيد أنّ طهران تريثت في المسألتين. فهي ما دعمت خطة المالكي بالقوة التي كان يرجوها منها، ومن سائر دول الجوار التي زار بعضاً منها. كما أنه بالنسبة للاحتلال الأميركي؛ اكتفت إيران بالقول إنّ الاضطراب والعنف بالعراق يعيقان الانسحاب الأميركيَّ من هناك. والطريفُ ذهابُ الجمهورية الإسلامية للقول إنّ الشيعة يشكّلون الأكثرية بالعراق؛ ولذلك فإنّ السلطة ينبغي أن تكونَ لهم. وما كان ذلك موضوع النقاش؛ فضلاً عن أنّ الشيعة ليسوا كتلةً واحدةً شأنهم في ذلك شأن السُّنة والأكراد. وفي بلدان التعددية الحزبية، يجري الاحتكامُ إلى الانتخابات؛ أما إذا أُريد التحاصُص شأن ما يحصُلُ في لبنان منذ خمسةٍ وسبعين عاماً؛ فإنّ العراقَ سائرٌ ولاشكَّ إلى انقسامٍ لا مردَّ له؛ وبخاصةٍ أنّ الأكراد الآن شبه مستقلين، وأنّ حلفاء إيران الرئيسيين بالعراق "المجلس الأعلى" يقولون بالفيدرالية لا بالمحاصصة على أساس الأكثرية والأقلية الطائفية أو الديمقراطية في عراقٍ موحَّدٍ يتمتع بسلطةٍ مركزيةٍ قوية! لماذا كان هذا التردد والتريُّثُ من جانب إيران مع أنها كانت الداعي لاجتماع دول الجوار عندها؟ هناك من يقول إنّ عراقاً ضعيفاً ومشرذماً هو مصحلةٌ إيرانية، حتى لا يصيبَ إيران منه ما أصابَها أيام صدام حسين. لكنّ هذا الأمر غير مقنع. فالسلطة المركزية الضعيفةُ بالعراق، تعني استمرار الاضطراب حتى في المناطق الشيعية. وإذا انسحبت جيوش الولايات المتحدة وجيوش حلفائها؛ فستكون إيران هي العامل الرئيسي بالداخل العراقي، وستتحمل بالتالي جزءًا من المسؤولية عن المذابح التي ستظلُّ تحدُث؛ فيؤثّر ذلك على الأقليات والقوميات والمذهبيات بداخلها وبخاصةٍ الأكراد والسُّنة والبلوش.. الخ، كما يؤثّر سلباً على الانتشار الشيعي في العالمين العربي والإسلامي. وقد دأبت إيران في الشهور الماضية على محاولة طمأنة العرب (الخليجيين ومصر) والأتراك إلى حُسْن نواياها، وأنها إنما تُصارعُ الولايات المتحدة نيابةً عنهم، وهي تريد شراكةً منصفةً في المنطقة تُسهمُ في حلّ المشكلات المستعصية الناجمة عن العنجهية الأميركية وبخاصةٍ في فلسطين والعراق وفي أمن الخليج. وقد كان ذلك هو الانطباع الذي خرج به الأمير سعود الفيصل عندما زار طهران، وكذلك عبدالله غول وزير الخارجية التركي، وبن علوي وزير الخارجية العُماني. ولذلك فالراجحُ أنّ تريُّث طهران في اجتماع دول الجوار مردُّهُ إلى أنها لا تريدُ التنازُل قبل المفاوضات مع الولايات المتحدة، كما أنها تنتظر العروضَ ونتائج التفاوُض مع أوروبا. وقد ذكر سولانا وذكر الأوروبيون بعد جلساتهم مع لاريجاني ورفاقه أنّ الأمر مُضْنٍ، ومخيِّب للآمال؛ في حين رأى لاريجاني بشائر للحلّ، وطالب الأوروبيين بالصبر؛ في الوقت الذي عاد فيه رئيس الجمهورية الإسلامية لتهديد إسرائيل بالويل والثبور وعظائم الأُمور. وبذلك فالذي يبدو أنه حتى مؤتمر أطراف الجوار العراقي بطهران، استخدمته إدارة الجمهورية الإسلامية في تكتيكات التفاوُض واستشرافاته، دون أن تُحدِّد بعد مفهومها لأصول المحاصصة وشروطها. إنّ الذي حدث في المنطقة في السنوات الثلاث الأخيرة تغييرٌ جيواستراتيجي بارز. فقد تدخلت الولاياتُ المتحدة مباشرةً لإسقاط نظامٍ سياسيٍ عربيٍ، معلنةً سُخْطَها على العرب أجمعين باعتبارهم منبع الإرهاب والاستبداد. لكنْ في الوقت نفسِه، أي عند الضغط لتغييب العرب كانت أُمور أُخرى تتوالى وقائعَ وانطباعات: انتهاء الصراع العربي/ الإسرائيلي عملياً، واقتصار الأمر على صراعٍ فلسطيني/ إسرائيلي. إذ لم يعد هناك إطلاقٌ للنار على إسرائيل من خارج فلسطين إلاّ من لبنان، وعلى يد جهة غير عربية هي الجمهورية الإسلامية من خلال "حزب الله" (ويدخل في المواجهة المستمرة خطف حزب الله لجنديين إسرائيليين). والمعروف أنَّ الولايات المتحدة عندما تدخلت عسكرياً بأفغانستان والعراق؛ فعلتْ ذلك بالتوافُق السلبي على الأقلّ مع إيران؛ مما نجم عنه تصاعدُ النفوذ الإيراني بالعراق وأفغانستان (المناطق الشيعية)؛ فضلاً عن استتباع سوريا من جانب إيران على أثر وفاة الرئيس حافظ الأسد. لكنّ الجانب الخاسر أو المتضائل ما اقتصر على العرب؛ بل شمل إسرائيل أيضاً. ففي الجانب الإسرائيلي حدثت حالةٌ من الانكفاء الشامل: الانسحاب من الجنوب اللبناني عام 2000، ومن غزة عام 2004؛ ومن بعد ذلك خطة الانطواء للانسحاب من الصفة الغربية. وعندما تصاعدت أزمة الملف النووي الإيراني هدد الإسرائيليون بضرب المفاعلات النووية الإيرانية. لكنهم ما لبثوا أن استكانوا وانتظروا ما ستفعله الولايات المتحدة. وبذلك تحولت إسرائيل بالنسبة لأميركا وأوروبا إلى كيان ضعيف يجب تحمُّلُ أعباء حمايته ونشر مظلةٍ من فوقه ومن حوله. فالوجود العسكري الإسرائيلي القوي لا يكفي لحماية الدولة العبرية؛ فضلاً عن أن يمكّنَ من إقامة توازُنٍ مع إيران. إنّ التحدي الإيراني غير المحسوب من الولايات المتحدة، دفعها منذ مطلع عام 2006 إلى إعادة النظر في سياسة الجفاء تجاه تركيا. فقد وقفت تركيا ضد غزو العراق لتخوفها من المسألة الكردية، ومن الفوضى على حدودها. ولقيت صعوباتٍ نتيجة ذلك في القضية القبرصية، وفي التفاوض للدخول إلى الاتحاد الأوروبي. كما بدأ أمنها يتهدد بعودة الهجمات الكردية على أراضيها من داخل العراق. لكنَّ صبرها لقي جائزته المنتظرة. فقد توددت إليها إيران لاستيعاب الخطر الكردي على الدولتين. كما أرادت كسب سكوتها في سطوتها المتصاعدة بالمنطقة، وإفادتها من حرية التجارة معها. أما منذ مطلع عام 2006 فإنّ الولايات المتحدة هي التي رأت أنها جفت تركيا حليفتها الاستراتيجية أكثر من اللازم، وعادت إليها بعدة أشكال آخِرها إعلان صدر عن اجتماع "غول" برايس في واشنطن قبل عشرة أيام. أميركا محتاجة إلى تركيا للتوازُن مع إيران. والعرب محتاجون إلى تركيا للغرض نفسه. ولذلك ما عادت تركيا شريكاً فقط في اجتماعات دول الجوار؛ بل في المفاوضات الأوروبية والأميركية مع إيران أيضاً. وهذا هو التحقُّقُ الأكبر لمفهوم الشرق الأوسط منذ مطالع حقبة الحرب الباردة. فوقتها أرادت أميركا إنشاء حلف "السنتو" الذي يضمُّ تركيا وإيران الشاهنشاهية والعراق وضمناً إسرائيل. ووقتها وقفت مصر الناصرية والسعودية ضدّ التحالُف واستطاعتا إسقاطَهُ بعد خروج العرب منه بسقوط النظام الملكي بالعراق عام 1958. والآن فرضت إيران نفسها، أمّا تركيا ففرضتها حاجة العرب وإسرائيل وأميركا إليها. فتركيا اليومَ ليست فقط دولةً قويةً عسكرياً واقتصادياً؛ بل هي أيضاً الممثّل الرئيسي للإسلام المعتدل في مواجهة التشدد الديني الشيعي الإيراني، والتشدد الديني الأصولي السُّني. في مشروعه للشرق الأوسط الجديد، أواخر الثمانينيات، تصوَّرَ شيمون بيريز، وزير خارجية إسرائيل وقتَها تركيا باعتبارها ماءً وكهرباء للشرق الأوسط كلّه. أمّا اليوم فهي بالإضافة لذلك قوة عسكرية وقوة اقتصادية وعاملٌ رئيسيٌّ في التوازُن بالمنطقة؛ وبخاصةٍ أنّ إيران تُطِلُّ على تحالُفٍ لا يُدرى مداهُ بعد مع روسيا والصين؛ في حين يصطفُّ العرب والأوروبيون وتركيا في معسكر الولايات المتحدة. لقد بدا عندما غزت الولايات المتحدة أفغانستان والعراق، أنّ الهيمنة استتبتْ للولايات المتحدة، في هذه المنطقة الحسّاسة والاستراتيجية، المليئة بالطاقة، وبالأسواق، وعلى تقاطُع القارات الثلاث، بعد انتهاء الحرب الباردة. ثم شنّت إيران هجمتها المضادّة، فاستوعبت الضربة الأميركية، وحقّقت اختراقاتٍ مهمة أخافت الجميع بمن في ذلك إسرائيل والعرب... وأوروبا والولايات المتحدة. وها هي أميركا تحاول إعادة التوازُن خشية توسُّع الخروقات بعد دخول الصين وروسيا إلى جانب إيران، وتركيا فالهند إلى جانب الولايات المتحدة. وبذلك تبلْور مفهومٌ جيواستراتيجي جديد للمنطقة هو الشرق الأوسط؛ والذي دفعت إليه هذه المرة إيران وليس القوى الغربية كما كان عليه الأمر قبل الحرب الباردة وخلال اشتعالها.