حين تشاهد عبر الفضائيات والقنوات مشاهد العنف المشتعل في منطقة الشرق الأوسط, يخيل إليك أنك قد دخلت هذا "الفيلم" من قبل, وأنك تدري سلفاً ما سيؤول إليه من مآل مأساوي. ولكنك مخطئ هذه المرة, لكونك لم تشاهد هذا الفيلم من قبل. والحقيقة أن حدثاً جديداً تماماً يجري هنا, وأنه حري بنا أن ندرك كنهه. فما نشهده في كل من العراق والأراضي الفلسطينية ولبنان, هو سعي الأحزاب الإسلاموية لاستغلال الديمقراطية والانتخابات في تحقيق هدفها الرئيسي الذي طالما تطلعت إليه: أسلمة العالم العربي الإسلامي. وليست لما نراه علاقة بأي نزاع من أي نوع كان, ذي صلة بأسرى فلسطينيين أو لبنانيين في السجون الإسرائيلية. بل الحقيقة أنه صراع من أجل السلطة في لبنان وفلسطين والعراق, وهدفه الإمساك بمقاليد السلطة والحكم عبر الحكومات الديمقراطية المنتخبة. ولذلك فإن من الطبيعي أن نتساءل عما إذا كانت تلك "الديمقراطيات" زائفة أم حقيقية؟ وبالنتيجة فقد سيطر الجناح العسكري الصغير من حركة "حماس" على كافة خيوط السياسة الفلسطينية اليوم, بينما يفعل الشيء نفسه "حزب الله" الشيعي المدعوم إيرانياً في لبنان, على رغم كونه لا يشكل سوى أقلية ضئيلة في مجلس الوزراء اللبناني. وفي العراق أيضاً يتكرر الشيء نفسه تقريباً مع الأحزاب والمليشيات الشيعية المدعومة من إيران. والملاحظ أن هذه الأحزاب والجماعات لا تكتفي بالسعي لأن تكون لها اليد الطولى في الديمقراطية الناشئة في بلدانها فحسب, وإنما تنافس بعضها بعضاً من أجل فرض نفوذها إقليمياً. وعليه يمكن القول إنه جرى عملياً اختطاف التجربة الديمقراطية التي شهدها العالم العربي الإسلامي في أعقاب هجمات الحادي من سبتمبر. ذلك أن انتخابات حرة ونزيهة قد جرت في كل من لبنان وفلسطين والعراق. ولا جدال كذلك حول مشاركة الملايين من الناخبين العرب والمسلمين في تلك الانتخابات, تعبيراً من شعوب المنطقة عن رغبتها الأكيدة في تشكيل حياتها ومستقبلها. لكن بالنظر إلى ضحالة جذور شجرة الديمقراطية في هذه المنطقة, مصحوبة بإضعاف الأغلبيات المعتدلة وترهيبها, فقد أفرز لنا العالم العربي الإسلامي أسوأ ما في التجارب الديمقراطية على الإطلاق. وقد تجلى هذا السوء في وصول أحزاب إسلاموية إلى السلطة عبر الانتخابات وصناديق الاقتراع, غير أنها تصر على تمسكها بمليشياتها الخاصة, وتتمنع عن تحمل كافة المسؤوليات التي تقع على أية دولة ذات سيادة. وضمن ذلك فهي ترفض أن تكون الحكومة الجهة الوحيدة الرقيبة على كافة الأسلحة. كما ترفض هذه الحكومات الإسلاموية الانصياع للقانون الدولي وتحمل مسؤولياتها إزاءه. من ذلك مثلاً رفضها لاتفاقية الحدود اللبنانية- الإسرائيلية التي جرت المصادقة عليها من قبل الأمم المتحدة. وبالعناد ذاته ترفض حكومات الأحزاب الإسلاموية المنتخبة الامتثال لمبدأ التزام حكومة الحزب الواحد المسيطر على مجلس الوزراء بعد جر البلاد بأسرها إلى حلبة النزاع والحروب. وعلى حد تعليق المفكر السياسي الإسرائيلي "يارون إزراحي": "فقد أجريت انتخابات حرة نزيهة في كل من العراق ولبنان وفلسطين. وكانت التكهنات الغربية تتوقع أن تسفر تلك الانتخابات عن حكومات شرعية قادرة على لجم العنف, إلى جانب تحملها لعبء مسؤوليات الحكم والقيادة. غير أن الذي حدث في البلدان الثلاثة المذكورة أن تمخضت الانتخابات إياها عن حكومات ليس لها من السيادة إلا مجرد حبر على ورق. وبالنتيجة فهي أبعد ما تكون عن بسط سيادتها على أرضها وحدودها الجغرافية السياسية". ولما كانت تلك هي الحصيلة النهائية, فلم يتم انتخاب أحزاب مثل "حماس" و"حزب الله" أساساً؟! وفي الرد على هذا السؤال يسارع "إزراحي" إلى الإجابة قائلاً: لكونها تقاوم فساد الأحزاب العلمانية الحكومية في بلدانها. بيد أن مشكلة "الأحزاب الإسلاموية" هذه تكمن في تمسكها بأجندتها وأهدافها الطائفية, بدلاً من خدمة المصالح الاجتماعية الأوسع ما أن تبلغ سدة الحكم. ومن جانبه قال السياسي المسيحي اللبناني بطرس حرب: "إنه من واجبنا أن نحدد لمن يحق اتخاذ القرارات ذات الصلة بالحرب والسلام في بلادنا. وضمن ذلك علينا أن نقرر ما إذا كانت تقتصر تلك القرارات على الشعب اللبناني ومؤسساته القانونية الشرعية وحدهما, أم أنه خيار مطلق بيد أقلية ضئيلة من الشعب اللبناني؟" وعودة إلى تجارب الديمقراطيات الناشئة في كل من العراق وفلسطين, قال "إزراحي" معلقاً: "عندما يحتفظ أعضاء المجلس الوزاري بمليشياتهم الخاصة, ويعملون خارج إطار الدولة واختصاصاتها ومؤسساتها, فما الذي يبقى سوى عبث الممارسة الديمقراطية ولا معنى محاولات بناء الدولة؟! وإنني لأتساءل لمَ لا تعاقب الشعوب التي انتخبت هذه الأحزاب على أدائها الحكومي المعارض للمصلحة الشعبية العامة؟ وأجيبه قائلاً إن السبب هو أن أولئك الذين يعارضون "حزب الله" و"حماس", إنما يطعن في شرعيتهم ومصداقيتهم, ويجري النظر إليهم شزراً على أنهم مجرد "دمىً أميركية", أو يقتلون بكل بساطة, مثلما حدث لرئيس الوزراء السابق رفيق الحريري. وعلى أية حال, فإن العالم في أمسّ الحاجة لفهم ما يجري هناك في منطقة الشرق الأوسط. فها نحن نرى زهور الديمقراطية الغضة اليافعة التي جرى غرسها في كل من العراق ولبنان وفلسطين, تدوس عليها وتسحقها أحذية المليشيات الإسلاموية المدعومة من قبل كل من سوريا الرافضة للممارسة الديمقراطية الحقة, وإيران المستميتة في تحريم الحداثة على المنطقة. فهل يا ترى أصاب المتشككون القائلون إن الديمقراطية وعلى رغم كونها أنجع أشكال الحكم على الإطلاق, إلا أنها ربما لا تصلح للتطبيق في كل مكان؟! ومهما يكن فإن هذا العزف الأميركي- البريطاني المنفرد لا يفي وحده بغرس تلك الشجرة في العراق. ــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"