خلال الأسبوع الأخير من شهر يونيو 2006، تناقلت وسائل الإعلام في الولايات المتحدة خبراً مثيراً، مفاده أن الملياردير الأميركي Warren Buffett، سيقوم قريباً بالتبرع بما نسبته 85 في المئة من ثروته الطائلة التي تبلغ حوالى 44 مليار دولار أميركي، إلى عدد من جمعيات البرّ والإحسان لكي تقوم بدورها بإنفاق الأموال على الخدمات الصحية والتعليمية على مدار كوكب الأرض. وأمام خبر مذهل من هذا القبيل، يقف الإنسان حائراً مشدوهاً متسائلاً عن الدوافع والمبررات التي تجعل رأسمالياً عالمياً معروفاً بقدرته الفائقة على جمع المال، القيام بعمل خيري وإنساني لم يسبقه إليه أحد في هذا العالم؟ وبرغم أنني لن أجيب على هذا التساؤل لأنه ليست لديّ إجابة عليه، فإن الدوافع والأسباب ليست مهمة بقدر ما هو مهم قيمة عطاء من هذا القبيل بحد ذاتها. عندما سمعت الخبر شعرت بشيء غريب يدور في نفسي، جعلني أشعر باحترام شديد لرجل لم أره في حياتي، وربما لن أرَه مطلقاً، وشعرت أيضاً بأن عواطفي تسمو إلى أعلى لكي تشكر هذا المحسن العظيم، رغم أنني أستطيع القول إن سنتاً واحداً من تلك الأموال لن يمر بجانبي، فما بالك بالوصول إليّ. وعلى أية حال فإنه سيبقى في جيب "وارن بفت" من أمواله حوالى 6.5 مليار دولار أميركي، وهو بالتأكيد مبلغ ضخم سيجعل السيد "بفت" يعيش في بحبوحة واسعة فيما تبقى من عمره المديد، وهو بالمناسبة يبلغ هذه الأيام 75 عاماً. وحتى لا يعتقد القارئ العربي الذي لم يسمع في حياته عن محسنين من هذا العيار الثقيل، بأن السيد "بفت" ليس في كامل قواه العقلية، ويحتاج إلى من يحجر عليه من أبنائه وأقاربه، كما يحدث في العالم العربي حين يبلغ طمع البعض في أموال ذويهم ذروته، فإن من الجدير القول إن "وارن بفت" اختار مؤسسة "بيل ومليندا جيتس" الخيرية كمتلقٍ رئيسي للتبرع الذي سيقدمه. وهذه المؤسسة رغم أنها خيرية فإنها تدار بطريقة الشركات الخاصة، أي أنها تقوم بتدوير أموال التبرعات والخير التي تقدم إليها لكي تجني منها أرباحاً تستخدمها في نشاطاتها الإنسانية، في نفس الوقت الذي يبقي فيه رأس المال ثابتاً ولكنه مستغل ولا يتآكل. إن هذه الطريقة في اختيار الجهة التي تدير معظم الأموال التي تبرع بها "وارن بفت"، تعطينا انطباعاً مباشراً بأن الرجل في كامل صحته العقلية ويفكر بذهنية رجل الأعمال الناجح الذي يسعى إلى الربحية حتى بالنسبة للأموال التي يتبرع بها لفعل الخير، وتعكس أيضاً كيف أنه مدرك تماماً أن أموال التبرعات يمكن أن تذهب سدىً إذا لم تستغل بطريقة حكيمة وواعية. إن حكمة هذا الرجل في التبرع بأمواله، تعكس أنه يريد أن يتأكد تماماً من أن الأموال ستستخدم في الأغراض التي خصصت لها، وهذا أمر متوقع تماماً من رجل يعتبره الأميركيون ثاني أغنى رجل في العالم، فهو شخص يعلم علم اليقين كيف يضاعف الدولارات عشرات المرات. وهذه الحقيقة معروفة عن "وارن بفت" من خلال ما أبداه من قدرة فائقة على تحويل شركة النسيج الصغيرة الخاصة به إلى شركة استثمار عملاقة. إن المعروف عنه أنه يستطيع الاستثمار في أسهم الشركات التي يمكنها تحقيق الأرباح في المستقبل، فهو يختار الشركات المتعثرة وتكون أسهمها في أدنى أسعارها ويقوم بشراء أسهمها، لأنه يعتقد أنها ذات قيمة مستقبلية. وتتحدث الأوساط الاقتصادية في واشنطن بأنه كان محقاً في أغلب الأوقات، وكوّن ثروته الطائلة بهذه الطريقة. إن حالة "وارن بفت" جعلتني أفكر وأتساءل: كم من المليونيرات في العالم العربي يتبرعون لخدمة المعوزين في بلدانهم التي يعيشون فيها؟ بل كم واحداً منهم يخرجون زكاة أموالهم؟ بل وأشد من ذلك، كم هم الذين يدفعون الضرائب المستحقة عليهم للدولة بنفس راضية ولا يهربون منها ويرتبون دفاترهم الحسابية لتحقيق ذلك؟ إنها تساؤلات عميقة ذات جوانب فلسفية، تطال المقارنة بين قيمنا وقيم الآخرين، وأخلاقنا وأخلاق الآخرين. إن الواقع مرير في أوطاننا أيها الإخوة، فنحن نمارس ثقافة "كل من إيدو إللو" بكل كفاءة واقتدار.