تتصاعد الأحداث على نحو متسارع منذ عملية "الوهم المتبدد"، التي نفذتها المقاومة الفلسطينية عند معبر كرم سالم، يوم 25 يونيو 2006، وما أعقبها من عدوان إسرائيلي شامل على قطاع غزة يرتكب خلاله من الفظائع كل يوم ما تعجز الكلمات عن وصفه. وتشير كل المؤشرات إلى أن الوضع يتجه إلى مزيد من الاشتعال، وقد يتخذ أبعاداً إقليمية أوسع بكثير من حدود الأراضي الفلسطينية، ولاسيما مع العملية الفدائية الأخرى التي نفذها "حزب الله" في المنطقة الحدودية بين لبنان وفلسطين المحتلة، يوم 12 يوليو 2006، وأُطلق عليها اسم "الوعد الصادق"، وتمكن خلالها من قتل ثمانية من جنود الاحتلال الصهيوني وأسر اثنين، فضلاً عن اتجاه الحكومة الإسرائيلية، ومن خلفها الإدارة الأميركية، إلى اتهام سوريا وإيران صراحةً بدعم منظمات المقاومة الفلسطينية، التي تُوصف في القاموس الأميركي- الصهيوني بأنها "إرهابية". ومع هذه التطورات المتلاحقة، التي يصعب في الوقت الراهن التنبؤ بما يمكن أن تصل إلى من مدى، تبرز صورتان متناقضتان، تكاد إحداهما تطغى على الثانية لما تزخر به من حقائق دامية بالإضافة إلى ذيوعها من خلال وسائل الإعلام. والصورة الأولى الشائعة هي صورة الدولة الصهيونية التي تملك من القوة ومن الدعم الأميركي المطلق ما يتيح لها أن تقصف وتدمر وتجتاح ما تشاء من مواقع ومنشآت ومناطق وأن تسقط عشرات الشهداء والجرحى من الفلسطينيين كل يوم دون أي اعتبار لشرائع أو أعراف دولية، ودون أن يبدو في المقابل أيضاً أن ثمة قوة إقليمية أو دولية قادرة على وقف العدوان أو ردع المعتدي. أما الصورة الأخرى المتوارية فهي تلك التي ترسمها تحليلات كثير من الكتاب في الكيان الصهيوني، وهي صورة دولة متخبطة سياسياً وعاجزة، رغم قوتها العسكرية الساحقة، عن تحقيق أي قدر من الاستقرار أو الأمن حتى على المدى القصير. فعلى سبيل المثال، يفنِّد جدعون ليفي (صحيفة هآرتس، 9 يوليو 2006) الذرائع التي يستند إليها الكيان الصهيوني لتبرير عدوانه المستمر على الشعب الفلسطيني، وفي مقدمتها الذريعة القائلة إن ما تفعله القوات الصهيونية هو رد دفاعي على ما يُسمى "العنف الفلسطيني"، فيقول: "إسرائيل تقوم بتدمير مولدات الكهرباء وإغراق غزة في ظلام دامس وتفرض الحصار وتقصف وتفجر وتُبيد وتسجن وتقتل وتجرح المدنيين ومنهم الأطفال والرضع، ومع ذلك تقول إن الفلسطينيين هم البادئون، هم أيضاً يحطمون قواعد اللعب التي فرضتها إسرائيل ومؤداها: من المسموح لنا أن نُفجر كلما رغبنا في ذلك، أما هم فمن المحظور عليهم إطلاق صواريخ القسَّام. فعندما يطلقون صواريخ القسَّام على عسقلان، يكون هذا تصعيداً، أما عندما نقصف نحن الجامعات والمدارس، فهذا أمر عادي. لماذا؟ لأنهم هم البادئون... وهذه الورقة (من بدأ) تتحول إلى ورقة رابحة بيد إسرائيل لتبرير كل عمل ظالم متجبر تُقدم عليه". ويطرح الكاتب عدداً من التساؤلات التي تكشف زيف الدعاوى التي تسوقها القيادة السياسية في الكيان الصهيوني، ويصل من خلال ذلك إلى أن جذر المشكلة يكمن في الاحتلال وما ترتب عليه من أوضاع وسياسات، ومن ثم فلا حل مع بقاء هذا الاحتلال. وإذا كانت هذه النتيجة تعبر عن لحظة صدق نادرة لدى كتاب ينتمون قلباً وقالباً لهذا الكيان الاستعماري الاستيطاني، فالأهم من ذلك أنها تصلح، مع الأسف، درساً بليغاً لكثير من السياسيين والكتاب العرب الذين يختزلون الصراع في عبارات جوفاء تعادل بين القاتل والضحية وتهدر حقائق التاريخ، من قبيل "العنف والعنف المضاد" و"إدانة كل أعمال العنف" وما إلى ذلك. يقول الكاتب: "ماذا كان سيحدث لو لم يقم الفلسطينيون بإطلاق صواريخ القسَّام؟ هل كانت إسرائيل سترفع الحصار الاقتصادي عنهم حينئذ؟ وهل كانت ستفتح حدودها أمام العمال الفلسطينيين؟ هل كانت ستطلق سراح السجناء أو تلتقي مع القيادة المنتخبة وتجري المفاوضات معها؟ وهل كانت ستشجع الاستثمارات في غزة؟ هذا كله لغو فارغ. فلو جلس سكان غزة بهدوء كما تتوقع منهم إسرائيل، لشُطبت قضيتهم عندنا وفي العالم... لم يكن أحد ليفكر بمصير سكان غزة لو لم يتحركوا بصورة عنيفة. هذه حقيقة مريرة جداً، ولكن الواقع أن العشرين عاماً الأولى من الاحتلال مرت علينا بهدوء، ومع ذلك لم نحرك ساكناً لإنهائه، بل إننا في ظل ذلك الهدوء قمنا ببناء مشروع استيطاني هائل وإجرامي. ونحن الذين ندفع الفلسطينيين الآن إلى استخدام السلاح البسيط الموجود بحوزتهم ونرد عليه باستخدام كل ترسانتنا العسكرية الهائلة ونواصل الادعاء قائلين: هم البادئون... نحن الذين بدأنا. نحن بدأنا بالاحتلال، وعلينا واجب إنهائه بصورة حقيقية ومطلقة. ونحن الذين بدأنا العنف أيضاً، فليس هناك عنف أفظع من عنف الاحتلال الذي يفرض نفسه بالقوة على شعب بأكمله". ومن ناحية أخرى، يشكك "تسفي برئيل" (صحيفة هآرتس، 9 يوليو 2006) في ادعاءات الحكومة الإسرائيلية بشأن أهداف الحملة الأخيرة على قطاع غزة، موضحاً أن القوة العسكرية وحدها لا يمكنها أن تحقق حتى هدفاً محدوداً مثل استعادة الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليت، الذي أسرته المقاومة الفلسطينية في سياق عملية "الوهم المتبدد"، ناهيك عن تحقيق الأهداف الاستراتيجية الأبعد للكيان الصهيوني. ويبدأ الكاتب ببعض التساؤلات التي لا تخلو من سخرية، فيقول: "ما دمنا لا نُجري مفاوضات مع الإرهابيين، فلماذا نمارس الضغوط الدبلوماسية على سوريا حتى تضغط على خالد مشعل ليقوم بدوره بالضغط على الخاطفين حتى يُعيدوا "جلعاد شاليت"؟ وإذا كانوا يبحثون عن وسطاء من روسيا والصين مروراً بقطر وتركيا، فلماذا يؤكدون أن إحدى ذرائع الاجتياح الحالي هي إطلاق سراح "شاليت" بالقوة؟ لهذين السؤالين جواب واحد هو: الغطرسة.. غطرسة الجيش الذي أهانته عصبة من عصابات الشوارع واختطفت أمام سمعه وبصره أحد عناصره وقتلت اثنين". ويرى الكاتب أن على القيادات السياسية والعسكرية في الكيان الصهيوني، التي ترفض التعامل مع "حركة حماس" وحكومتها المنتخبة ديمقراطياً، أن تعد نفسها لمواجهة جيل جديد من المقاومين الفلسطينيين الشبان، الذين يتجاوزون في حركتهم حتى أفق الفصائل التي ينتمون إليها، ولا ترهبهم آلة الحرب الصهيونية. ويصف الكاتب هؤلاء بأنهم: "الجيل الجديد الذي لا يخشى الدبابات، من قبيل "جيش الإسلام" و"ألوية الناصر صلاح الدين". هؤلاء هم النشطاء الذين يبنون لأنفسهم البرنامج الوطني ويكتسبون الرصيد، وهم ينتظرون الجيش الإسرائيلي في الأزقة التي يعرفونها عن ظهر قلب". أما عمير رافبورات (صحيفة معاريف، 7 يوليو 2006) فيعترف بأن جيش الاحتلال الصهيوني يوشك على السقوط فيما يسميه "مستنقع غزة" رغم كل ادعاءاته بأن العملية العسكرية الأخيرة، التي أُطلق عليها اسم "عملية أمطار الصيف"، قادرة على تحقيق هدفها المحدد وهو استعادة الجندي الإسرائيلي الأسير ووقف إطلاق صواريخ "القسَّام". ويمضي الكاتب قائلاً: "بوسع رجال السياسة الاستمرار إلى ما لا نهاية في القول بأنه "ليست لدينا أية نية للغرق في مستنقع غزة"، ولكن الصور تتحدث بنفسها. وهي تبرهن أن الجيش الإسرائيلي ينجر رغماً عنه عائداً إلى القطاع، بعد أقل من سنة على إخلائه ضمن خطة الفصل. وقد تعلم الجنود على أجسادهم أن هذه العودة تترافق مع معارك ضارية، بسبب كميات السلاح التي أصبحت أكبر مما كانت وقت أن تركنا المنطقة. وقد فاجأت شدة القتال الجيش الإسرائيلي، ولكن من دون أن يدفعه ذلك إلى طرح السؤال الأهم الذي يجب أن يُسأل، وهو هل تؤدي المعارك في الأزقة الضيقة إلى تقريب الجيش الإسرائيلي من تحقيق أهداف عملية "أمطار الصيف"... ليس مؤكداً أن الفلسطينيين سوف يستوعبون ما تحاول إسرائيل توضيحه لهم. فكل قتيل فلسطيني يُضاف للقائمة، يلهب المشاعر ويزيد من روحهم القتالية. وهناك في الجيش الإسرائيلي نفسه من يشكك في قدرة عملية عسكرية بذاتها على دفع الفصائل الفلسطينية، أو على الأقل غالبيتها، نحو الإقرار بأن من الأفضل لها ألا تطلق الصواريخ على إسرائيل". وإذا كانت الصورة الأولى، لقوة الاحتلال غير المحدودة، هي التي تفرض نفسها حالياً من خلال مشاهد الدمار والبطش ودماء الشهداء والجرحى، فليس بوسعها أن تخفي الصورة الثانية لكيان يسير قدماً، وإن طال المدى، إلى نفس المستنقع الذي انتهت إليه جميع الكيانات الاستعمارية الاستيطانية. والله أعلم.