مجدداً، كان الحدث إيران وملفها النووي أولاً ثم امتداداته ثانياً من العراق إلى سوريا وفلسطين ثم لبنان. كل العالم كان منشغلاً بهذا الحدث. حددت مواعيد لتلقّي جواب إيراني على مقترحات وحوافز قدمت من اللجنة الأوروبية- الأميركية لها لوقف تخصيب اليورانيوم. فجأة أصبح الحدث في فلسطين. عملية فلسطينية ضد القوات الإسرائيلية. قتل عسكري واعتقال عسكري. أصبحنا في مرحلة جديدة. لم ينس فيها العالم إيران وملفها الذي أضيفت إليه العملية. فإسرائيل اتهمت سوريا وإيران بالوقوف وراء العملية من خلال دعم "حماس" وبعض المنظمات الفلسطينية الأخرى المشاركة في العملية. وقادة "حماس" موجودون في دمشق، صعـّدوا لهجتهم، ودمشق اعتبرت أن ثمة ورقة مهمة أصبحت بين يديها تستفيد منها في محاولة لجذب بعض الدول أو الأمم المتحدة لمحاورتها وطلب مساعدتها. وإذا حصل هذا الشيء كان خيراً لها وتأكيداً لدورها، وإذا لم يحصل كان عجزاً من قبل إسرائيل عن استعادة أسيرها ومعالجة مشاكلها، ودمشق تعتبر نفسها غير معنية مباشرة. كذلك إيران اعتبرت أن أي اتصال بقيادتها لطلب المساعدة هو تأكيد لدورها وحضورها. وهذا له وجه آخر، هو وجه مسؤولية بشكل ما عما يجري في فلسطين. اليوم أصبح الحدث في لبنان. عملية نوعية للمقاومة من حيث التحضير والتنفيذ والنتائج. في معزل عن كل الحديث الدائر عن مشروعيتها أو غير مشروعيتها وهذا الحديث بطبيعة الحال مهم، لكننا لا نزال هنا في مرحلة التوصيف لما جرى. الحدث هذا غطى على الحدثين الأولين. تبع العملية رد إسرائيلي بحرب شاملة ضد كل شيء في لبنان. مجازر جماعية، تدمير جسور، عزل مناطق، ضرب منشآت حيوية، المطار، محطات إرسال شبكة الاتصالات الهاتفية، محطات الكهرباء، الطرقات، البنى التحتية، إضافة إلى حصار بري وبحري وقصف المناطق المدنية. إسرائيل تكرر تجربة غزة في لبنان. إجماع على أن الحرب غير متكافئة، وغير مبررة، مع التأكيد من قبل كثيرين أن توقيت العملية وعدم تقدير عواقبها ونتائجها على البلاد أمران خاطئان خطيران، وضعا المقاومة في موقع المسؤولية تجاه الناس كل الناس وطرحا أسئلة كثيرة حول الخلفيات الحقيقية وحول الحديث الدائم عن حكمة وعقلانية قيادة المقاومة في التعاطي مع الأمور واختيار الأهداف والتوقيت، بما لا ينعكس سلباً على الوضع العام في البلاد. الأولوية في لبنان لوقف العدوان والحرب. ليس ثمة خلاف على عدوانية إسرائيل وإرهابها والعمل على مواجهته، وعلى استخدام كل الوسائل لذلك لاسيما الدبلوماسية والسياسية عبر الاتصالات المفتوحة مع العالم. الوقت ليس وقت مزايدات لا بالبطولات ولا بمحاولات استثمارها من قبل هذا أو ذاك في الداخل، الذين ليس لديهم سوى تكرار الكلام اليومي. فهم إنْ كانوا في موقع المسؤولية الرسمية يتصرفون بشكل غير مسؤول لأن مصالحهم وأهواءهم وحساباتهم الخاصة وحسابات من يرتبطون بهم هي التي تحركهم، وإنْ كان آخرون من الفريق نفسه خارج إطار المسؤولية الرسمية، فهم لا يمثلون ثقلاً فعلياً على الأرض وبالتالي يحاولون استثمار ما يجري على حساب دماء اللبنانيين ومستقبلهم. وأولوية رد العدوان لا تسقط ولم تسقط النقاش حول العملية وتوقيتها وأهدافها. فهي جاءت عشية اجتماع دول الثماني لحسم موضوع العرض المقدم إلى إيران لوقف تخصيب اليورانيوم بعد شعور الجميع بأن القيادة الإيرانية تناور وتريد كسب الوقت، وبالتالي لابد من موقف واضح وهو الذي عبّر عنه بإحالة الملف إلى مجلس الأمن لقطع الطريق على المناورات الإيرانية. وهي تأتي –أي العملية– بعد سقوط كل محاولات إسرائيل في حسم عملية استرداد أسيرها في فلسطين، وبعد صدور مواقف متشددة لقادة "حماس" من دمشق، وتعميق التنسيق الإيراني- السوري حول كل المسائل، وإسقاط المحاولات المصرية وكل المحاولات العربية وغير العربية للمعالجة. إضافة إلى ما قيل حول استفادة القيادة السورية من هذا الأمر، نظراً لأن النتائج كانت مكلفة جداً للبنان. فإذا سقطت الحكومة تحقق هدف سوري في طريق السعي إلى الهدف الأهم: إسقاط إنشاء المحكمة الدولية للتحقيق في جريمة اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري ورفاقه، وإذا تأزم الوضع الاقتصادي والاجتماعي والأمني، فثمة محاولة للقول: بعد الوجود السوري، الخراب الشامل، اللااستقرار، وليس ثمة بوابة إلا سوريا بعد الحصار الإسرائيلي الشامل. وكل شيء مربوط بسوريا. وبالتالي عادت دمشق موقعاً للحل والربط والوصل والفصل في كثير من الأمور. إضافة إلى أن العملية فتحت نقاشات حول من يتحكم بقرار السلم والحرب في لبنان وأعادت وستعيد السجال حول مقررات الحوار والحديث عن عمليات تذكيرية فقط في الجنوب وعن سعي إلى تمرير صيف هادئ ينعش اقتصاد البلد، ويتخلله حوار لإنجاز عدد من الملفات العالقة بما يعزز التماسك الداخلي ويفعـّل العمل الحكومي ويطلق عملية الاقتصاد إلى الأمام. كل شيء اليوم تهدد. الخسائر كبيرة جداً. ويظهر لبنان وكأنه مكشوف باستثناء بعض التأييد الكلامي من هنا وهناك. في الداخل قيل كل شيء. وسيقال أكثر. وهذا طبيعي. مع التأكيد على أن الأولوية أعطيت لمواجهة العدوان، لكن أمام حجم الخسائر، فإن النقاش سيزداد. الموقف العربي بعد تجربة غزة، وتجربة الفوضى في الساحة الفلسطينية عموماً وتكلفة ذلك، تأتي تجربة لبنان لتدفع إلى موقف سعودي لافت بمضمونه: يؤكد ثوابت المملكة في الدفاع عن المقاومة المشروعة، ولكنه يتحدث عن رفض المغامرات غير المحسوبة. كما يؤكد على ضرورة عدم تفرد أي فريق في أي مكان، فلسطين أو لبنان أو أية دولة أخرى، في القرار وإلحاق الأذى وتعريض الأمن والاستقرار في مختلف الدول العربية للخطر. كذلك بدا انزعاج مصري كبير والموقف مشابه للموقف السعودي إضافة إلى موقف دول الخليج المؤيد لهذا التوجه. لقد دخلنا في لبنان في مرحلة جديدة. ما قبل العملية شيء، وما بعدها شيء آخر. ودخلت المنطقة في مرحلة جديدة أيضاً. والموقف السعودي هنا رغم تفسيرات كثيرة وتحليلات كثيرة فيه حرص على لبنان من جهة ويساعد على لعب دور في الحل لوقف العدوان من جهة ثانية. ماذا يعني ذلك؟ هل يعني أن إسرائيل ستفرض شروطها وتحقق انتصاراً؟ بالتأكيد لا. لا أفق في فلسطين ولبنان للعمل العسكري الإرهابي المفتوح. ولا يضمن لها نتائج وانتصارات ومهما كانت الخسائر هنا وهناك فإن النتائج السياسية لن تكون في مصلحتها كما تريد. وهل يعني ذلك أن لبنان يمكن أن يتحمل تجارب من هذا النوع لأن الأفق الإسرائيلي مسدود ولا يحقق نتائج؟ بالتأكيد أيضاً لا. صحيح أن إسرائيل لن تربح. لكن الصحيح أيضاً أن المعادلة الدولية والإقليمية والداخلية والظروف التي يمر بها لبنان لا تضمن تحقيق إنجازات ولا تعزز وحدة وطنية وفي الأساس لا إنجازات دون هذه الوحدة. من هنا لابد من تفاوض عبر الأمم المتحدة والدول العربية لوقف العدوان وفتح قنوات الاتصال لمعالجة أسباب ونتائج ما جرى آخذين بعين الاعتبار جميعاً في لبنان الدروس مما حصل، مستفيدين من بعض إيجابياته في استعادة روح التضامن بين بعضنا بعضاً، لمزيد من المصارحة والشجاعة في طرح كل القضايا على الطاولة بعيداً عن المكابرة والانفعال والارتجال. فما كان قائماً قبل الحرب لم يعد قائماً بعدها. علينا جميعاً أن ندرك ذلك. والدولة يجب أن تمارس دورها كاملاً في كل المجالات وكل المناطق... هكذا يمكن أن يقف إلى جانبها الآخرون من عرب وغير عرب.