مع إطلالة كل صيف يندفع مئات الآلاف من الطلاب إلى بوابات الجامعات ليطرقوها بكل قوة كي تفتح لهم ذراعيها. وهي في الغالب لا تستوعب إلا ثلث الخريجين وأقل من نصف الخريجات من المدارس الثانوية. ومع تزايد أعداد الطلاب كل عام وضعف الطاقة الاستيعابية للجامعات، تحار هذه الأخيرة في التعامل مع الأعداد الهائلة ممن يطلبون ودها. وقد حاولت بعض الدول العربية مؤخراً فتح باب القبول لخريجي الثانوية، خاصة من ذوي المعدلات الضعيفة في كليات المجتمع. وتركز هذه الكليات على التخصصات شبه المهنية. ومع أن تجربة كليات المجتمع هي تجربة حديثة، إلا أن القائمين عليها يؤكدون أن الشركات والمؤسسات الحكومية تفتح ذراعيها لخريجي هذه الكليات. والسبب الرئيس لذلك هو أن معظم الوظائف المتاحة، خاصة في منطقة الخليج العربي هي لذوي الياقات الزرقاء. وبالرغم من زيادة رواتب الموظفين المواطنين مقارنة بالمتعاقدين من المهنيين ذوو الدرجات المتوسطة، فإن الإحلال يتم بشكل سريع، ودونما أي عائق. وينظر الكثيرون إلى هذه الظاهرة نظرة إيجابية. فهؤلاء الخريجون يساهمون مساهمة مباشرة في عملية التنمية ويحصلون على مرتبات مجزية، خصوصاً في المهن الطبية والمحاسبية. ومع ذلك فإن إقبال الآباء على إرسال أبنائهم أو بناتهم للكليات المتوسطة ليس كبيراً لأن معظم الآباء والأمهات يتوقعون أن يتبوأ أبناؤهم مراتب إدارية عليا، وأن يصبحوا من أصحاب الياقات البيضاء الذين يشار إليهم بالبنان. وفي ظني فإن مكمن عدم إقبال الطلاب والدارسين على المهن الحرة يكمن في النظرة الاجتماعية السلبية لهذه الفئة من العاملين، دون النظر إلى مستوى الدخل الشهري الذي قد يحصلون عليه. كما أن التنشئة الاجتماعية للأفراد في مجتمعاتنا العربية تركز على المنظور الريعي. وتعج قصص التراث العربي بفكرة الباحثين عن الكنز، والذين يحصلون على أموال طائلة دون أي عمل يذكر. وفي العصر الحديث عادت فكرة الكنز بشكل مختلف، فالشاطر هو الذي يعرف كيف يسعى إلى الحصول على أكبر قدر من المال بشكل شرعي أو غير شرعي. وما الإقبال على المضاربات العقارية في الماضي القريب، والمضاربة على الأسهم مؤخراً إلا شكل من أشكال محاولة جني أرباح طائلة دونما جهد يذكر. وحين يتخرج من الثانوية العامة هذا العام في المملكة العربية السعودية مثلاً حوالى 132 ألف طالب، فإن الجامعات السعودية لن تستوعب أكثر من نصف هذا العدد، وسيحاول البقية منهم البحث عن فرص أخرى للتعليم. وقد فتحت وزارة التعليم العالي مؤخراً أبواب الابتعاث للمتميزين من الطلاب للدراسة في جامعات مختلفة، سواءً في الولايات المتحدة أو في بريطانيا وأستراليا ونيوزيلاند. ومثل هذا الإجراء من شأنه أن ينوع القاعدة الثقافية والعلمية للخريجين، ويغني المجتمع السعودي بثقافات متعددة. وقد أنشئت كليات وجامعات خاصة متعددة في بلدان الخليج العربي، وفي كل من الأردن ولبنان ومصر. وبعض من هذه الجامعات ذات مستويات جيدة، كما أن بعضاً منها فروع لجامعات عالمية مرموقة. ولكن الإشكالية في هذه الجامعات هو أن تكاليف الدراسة فيها باهظة، وربما كانت الدراسة في الجامعة الأم في بلادها أرخص تكلفة وأفضل علمياً، حيث تتيح للطالب نهل الثقافة المحلية، وتوسع آفاق معرفته ومداركه، وتعميق إلمامه باللغة التي يدرس بها. في المقابل انتشرت في بعض البلدان العربية جامعات خاصة صغيرة أشبه ما تكون بأجنحة ملحقة ببعض المدارس الثانوية. وقد سنحت لي الفرصة شخصياً لزيارة بعض هذه الكليات والجامعات، ورغبت في زيارة مكتباتها. وقد وجهت في بعض الأحيان إلى مقصف للطعام فيه بعض المجلات والصحف اليومية مبثوثة على الرفوف، وقيل لي إن هذه مكتبة جامعية. زرت قبل فترة كلية صغيرة في بلد عربي ملحقة بمدينة صناعية وقد سررت من مستوى الأساتذة والإدارة فيها، والصلة الوثيقة التي أقامتها تلك الكلية مع مجموعة من المصانع والمؤسسات المحيطة بها لتدريب الطلاب في السنة الأخيرة من دراستهم، حتى يمكن استيعاب خريجها في تلك المصانع. ومع أن اسم الكلية ليس كبيراً، إلا المنهج الدراسي فيها ذو طابع مميز. من هنا فإن على الآباء أن يهتموا بتوجيه أبنائهم وبناتهم للدراسة في جامعات وكليات متميزة سواءً داخل بلدهم أو خارجه، وأن يهتموا بنوعية التعليم ومنهجياته. وهناك وزارات للتعليم العالي في معظم البلدان العربية تنشر قوائم بالتخصصات المعترف بها في الجامعات المختلفة، وحري بالآباء أن يعودوا إلى تلك القوائم، قبل إيفاد فلذات أكبادهم إلى الدراسة في معاهد أو كليات غير معروفة. ولاشك أننا في العالم العربي مهووسون بالحصول على الدرجات العلمية والأكاديمية، دون أن نتعلم، ويعود ذلك إلى أن المجتمع لا يقدر التعليم والإجادة في الإنتاج كمعيار رئيسي لأداء الأفراد، بقدر اهتمامه بالإطار التعليمي الذي مرّ به الفرد. ولكي يكون التعليم الجامعي متميزاً فإن هناك حاجة لدعم دخول أعضاء هيئات التدريس في هذه الجامعات وجذب أفضل العقول والخبرات التعليمية إليها. وهناك في الوقت الحاضر هجرة كبيرة للعقول والخبرات من الفصول الدراسية إلى المكاتب الحكومية وإدارات الشركات، ويعود ذلك في المقام الأول إلى ضعف الحوافز المالية لأساتذة الجامعات، خاصة إذا ما قورنوا بالأساتذة في حلقات التعليم الابتدائي والثانوي. وإذا لم تتحسن دخول هؤلاء الأساتذة، وفي ضوء التوسع الهائل في أعداد الطلاب الجامعيين، وزيادة عدد الكليات والجامعات الأهلية منها والحكومية، فقد يأتي يوم لا يمكن فيه استقطاب كفاءات تعليمية وطبية لهذه المؤسسات الجامعية. والتعليم في النهاية حلقات متواصلة تبدأ بالطالب والأستاذ والمنهج التعليمي والبيئة الثقافية للجامعات وبعلاقة التعليم بسوق العمل، تدريباً وإعداداً لدخول الخريجين إلى ذلك السوق. وكل هذه الحلقات تتطلب جهداً من جميع الفاعلين والمساهمين في العملية التعليمية، فكلما كان التخطيط الحكومي والإشراف متميزاً، وكلما تفاعلت الجامعات مع مجتمعاتها ثقافياً وعلمياً، وكلما تحسنت دخول الأساتذة، وكلما زاد اهتمام الطلاب وتركيزهم، فإن من شأن ذلك خلق جيل متعلّم متميزّ يستطيع قيادة عجلة التنمية في بلاده بكل جدارة واقتدار.