يتصور البعض في أوروبا وخارجها أن أوروبا قارة من قارات العالم الخمس مع أفريقيا وأميركا وآسيا وأستراليا، وأنها منطقة جغرافية. حدودها في الشمال في جرينلاند، وفي الجنوب الشاطئ الشمالي للبحر الأبيض المتوسط، اليونان وإيطاليا وفرنسا. وفي الغرب الشاطئ الغربي له، أسبانيا، مما خلق هوية غامضة للبرتغال التي تطل على الأطلسي من الغرب كما تطل عليه أميركا من الشرق فازدوجت الهوية بين المتوسطية والأطلسية. وفي الشرق جبال الأورال، آسيا الممتدة من أوروبا الشرقية حتى روسيا والصين. وقد تمتد المساحة الجغرافية أكثر من ذلك. فأوروبا في الشمال ملتقى آسيا وأميركا في القطب الشمالي. وفي الجنوب تمتد إلى أفريقيا من الشاطئ الجنوبي للبحر الأبيض المتوسط. وفي الغرب شبه الجزيرة الأيبيرية التي تقع فيها الأندلس والتي عاش فيها المسلمون واليهود والمسيحيون أمة واحدة مازالت تضرب بها الأمثال في التعايش بين الأمم. وكان يمثل العصر الذهبي لليهود وللمسيحيين على حد سواء، ومازالت مآثر غرناطة وأشبيلية وقرطبة وطليطلة ماثلة للعيان، يفخر به الجميع، وقصر الحمراء يطل على العالم بأكمله. وفي الشرق في فلسطين تقع أكبر مأساة عرفها العالم بعد وعد بلفور، وسقوط دولة الخلافة في 1924، وتقسيمها بين العرب واليهود في 1948، ثم العدوان المستمر على العرب في 1956، وابتلاعها كلها في 1967، ومازالت ترزخ تحت أبشع أنواع الاحتلال الاستيطاني. ومع ذلك هناك تحديد عنصري معلن أم غير معلن لأوروبا، وهي أوروبا البيضاء المسيحية، نهاية التاريخ، ومركز العالم. وهي التي تمنع من انضمام تركيا إليها تحت دعاوى كثيرة: ملف حقوق الإنسان في تركيا، القصاص، وضع المرأة، الحريات العامة، المعتقلون السياسيون، القضية الكردية، المستوى الاقتصادي. والحقيقة أن تركيا بلد مسلم، صاحب ثقافة مغايرة. وبانضمامها إلى الاتحاد الأوروبي يكثر عدد المسلمين بالإضافة إلى أوروبا الشرقية، البوسنة والهرسك وألبانيا والأقليات المسلمة في كل دول البلقان. وهنا يحدث انحراف عن الهوية الأوروبية المسيحية العنصرية البيضاء. ويبرز التراكم التاريخي القديم عندما سيطرت دولة الخلافة على أوروبا الشرقية حتى حدود فيينا من الشرق، وحين اتسعت رقعة المد الإسلامي حتى "تور" في فرنسا عبر الأندلس من الغرب. ثم سقطت القسطنطينية عاصمة الدولة البيزنطية وسميت إسلامبول أي "مدينة الإسلام". والحقيقة أن أوروبا ليست رقعة جغرافية، وليست قوة سياسية واقتصادية بل هي ثقافة عبر التاريخ. فقد ربط طريق الحرير بين الشرق والغرب، من الصين إلى البندقية. وامتدت الثقافات والعلوم والحضارات الآسيوية عبر الهند وفارس وبابل وكنعان ومصر القديمة إلى الحضارة الأوروبية. فلغات أوروبا هندية- أوروبية. والفلك البابلي داخل في الفلك اليوناني. وأساطير جلجامش وكنعان دخلت في العهد القديم. ومن تنبأ بولادة السيد المسيح ثلاثة من مجوس الشرق. والمسيحية نفسها شرقية المنبع. وأساطير وعلوم مصر القديمة داخلة في الأساطير اليونانية وعلوم اليونان. والمنطق الصوري عند أرسطو له ما يشابهه في منطق نيايا في الهند. وكانت في بلخ في أفغانستان ثقافة يونانية. وأثّر مزدك وماني وزرادشت والغنوصية الشرقية في كل الفلسفات القديمة اليونانية والهللينستية والمسيحية الأولى. كانت أوروبا وأفريقيا وآسيا وحدة حضارية واحدة منذ فجر التاريخ بالرغم من تنوعها، وقبل المركزية الأوروبية في العصور الحديثة. وكان البحر الأبيض المتوسط بؤرة هذا اللقاء الحضاري في القارات الثلاث خاصة بين شاطئيه الشمالي والجنوب، الأوروبي والأفريقي. فعندما يكون الشمال قوياً سياسياً ومبدعاً حضارياً تنتقل الثقافة من الشمال إلى الجنوب كما كان الحال في العصر اليوناني الروماني عندما ترجم العرب علوم اليونان وثقافتهم إلى العربية مباشرة أو عبر السريانية وشرحوها ولخصوها وعرضوها وأكملوها وأبدعوا فيها وتجاوزوها. وحدث ذلك مرة ثانية في العصور الحديثة الغربية عندما ترجم العرب في مصر والشام فلسفة التنوير والعلوم السياسية والاجتماعية الأوروبية، وأقاموا على أساسها النهضة العربية الحديثة، واستنبطوا منها نموذجاً للتحديث يقوم على الحرية والتعددية السياسية والبرلمان والانتخابات وحرية الصحافة والتعليم وإنشاء المدارس والجامعات. وعندما كان الجنوب قوياً سياسياً ومبدعاً حضارياً انتقلت الثقافة والعلوم من الجنوب إلى الشمال كما كان الحال في العصر الإسلامي حين انتشرت الثقافة والعلوم الإسلامية عبر الترجمات في طليطلة إلى كل ربوع أوروبا. وكانت وراء نهضة الغرب الحديث. وانتشرت أفكار العقل والطبيعة والعلم والقانون ومفاهيم العدل والشجاعة في بدايات العصور الحديثة وسُميت فيما بعد فلسفة التنوير. والآن يحدث مرة ثانية بانتشار الإسلام في ربوع أوروبا بحيث أصبح الدين الثاني فيها بعد المسيحية خاصة بعد أن اشتدت أزمة الغرب كما يشهد بذلك فلاسفة التاريخ الأوروبيون أنفسهم مثل اشبنجلر في "سقوط الغرب"، وهوسرل في "أزمة العلوم الأوروبية" وماكس شيلر في "قلب القيم"، ونيتشة في انتهائه إلى العدمية المطلقة. لعبت أوروبا دور الأستاذ وقمنا نحن بدور التلميذ مرتين في العصر اليوناني الروماني وفي العصور الحديثة. وقمنا نحن بدور الأستاذ وأوروبا بدور التلميذ مرتين في العصر الإسلامي الأول وفي النهضة الحالية للمسلمين، وفي المرة الثانية مازلنا في بدايتها. فأوروبا ثقافة وحضارة، تأخذ وتعطي ولو أنها تثبت العطاء وتنكر الأخذ بالرغم من بيان بعض الباحثين المنصفين له مثل مارتن برنال في "أوروبا السوداء" في كشف الجذور الأفريقية والآسيوية للحضارة الأوروبية، وجيمس ستون في "التراث المسروق". إن مأساة الحوار العربي- الأوروبي في العقدين الأخيرين هي تصور أوروبا للعرب على أنهم مصدر للطاقة، وفوائض أموال من عوائد النفط، وأسواق ضخمة للاستهلاك. فتقدم أوروبا الاقتصاد على السياسة. ونحن العرب نريد حل مأساتنا في فلسطين ثم في العراق، ونريد حواراً سياسياً أولاً. فالسياسة قبل الاقتصاد. فكل طرف يعزف لحنه. وكل منهما يمارس دور السيد على الآخر. والآن وبعد تكوين الاتحاد الأوروبي، الشاطئ الجنوبي الأفريقي ممثلا في دول المغرب العربي مجرد مراسلين وليس أعضاء. ينابهم حسن الجوار، والدول التي لها الأولوية في الرعاية. وقد يصل الأمر إلى تدريبات عسكرية مشتركة مع قوات حلف شمال الأطلسي دون أن تكون أعضاء كاملين في الاتحاد. والحقيقة أن الشاطئين الشمالي والجنوبي للبحر الأبيض المتوسط يمثلان تكاملاً طبيعياً، وثقلاً تاريخياً وثقافياً بل ومركز التوازن بين الشرق الآسيوي والغرب الأميركي. ويمكن أن يمثل الشاطئان كومنولثاً واحداً. فهما أقرب من الحلف بين أوروبا وأميركا عبر الأطلسي في حلف شمال الأطلسي. وفي ذلك أعظم الفائدة لأوروبا نفسها بالتخلي عن هويتها العنصرية البيضاء ومركزيتها، ورغبتها الدفينة في التوسع العسكري والهيمنة الاقتصادية والسياسية. وهو حماية لها من السيطرة الأميركية وتغلغل النفوذ الإسرائيلي. وهو في نفس الوقت أحد عوامل الإسراع في التحول الديمقراطي والتنمية المستدامة دون الوقوع في المتوسطية أو الشرق أوسطية كبدائل للوحدة العربية أو العرب باعتبارهم بؤرة للعالم الإسلامي الذي أصبح يشمل الآن مساحة القارات الخمس.