أثناء إحدى الحروب الألمانية- الفرنسية الكثيرة في القرن التاسع عشر، تمكّنت خلية من المخابرات الفرنسية من الوصول إلى وثائق سرّية من سجلات السفارة الألمانية في باريس تتضمن تقارير مكتوبة بخط يد ضابط في الجيش الفرنسي يدعى "ألفرد دريفوس". كشفت تلك الوثائق بالتفاصيل عن قيام هذا الضابط بالتجسس لحساب الألمان. إذ قدّم لهم معلومات خطيرة ومهمة جداً عن أسرار الجيش الفرنسي. اعتُقل الضابط في أكتوبر 1894. وأُحيل إلى المحكمة العسكرية. إلى هنا يبدو وكأن كل شيء ليس خارجاً عن مألوف الأحداث الاستثنائية. غير أن الضابط دريفوس كان يهودياً ولذلك خرجت قضيته، أو لعلها أُخرجت عن إطارها الطبيعي وهو محاكمة ضابط متهم بالخيانة، إلى إطار آخر مختلف تماماً وهو فبركة تهمة للإساءة إلى يهود فرنسا من خلال الإساءة إلى ضابط يهودي كبير. وهكذا، فالقضية التي يُحتفل بذكراها في فرنسا في مثل هذا الوقت من كل عام لا تزال تدور حول محورين: محور معاداة السامية ومحور موالاة الصهيونية. ولا تزال فرنسا منذ ذلك التاريخ، منقسمة على نفسها حتى اليوم. فريق ينفي تهمة الخيانة ويطالب الدولة بالاعتذار إلى اليهود عن ردود الفعل الغاضبة التي استهدفتهم، وفريق ثانٍ يؤكد التهمة على أساس الوثائق التي ضبطت من السفارة الألمانية، وبالتالي يطالب اليوم بإبعاد اليهود عن المواقع المهمة والحساسة في الجيش. وفي الواقع فقد صدر حكمان عن محكمتين فرنسيتين مختلفتين بشأن هذه القضية. الحكم الأول بالإدانة، وقد أصدرته محكمة عسكرية في عام 1899، أما الحكم الثاني فقد صدر عن محكمة مدنية في عام 1906، ونصّ على براءة دريفوس. وكان قرار إعادة المحاكمة قد اتخذته حكومة يسارية. وتشكلت المحكمة المدنية بطلب من تلك الحكومة ولأسباب سياسية داخلية. ولكن في عام 1994 أي بعد مئة عام، صدر عن رئيس قسم التاريخ في الجيش الفرنسي تقرير من ثلاث صفحات يشكك فيه بحكم البراءة. ويؤكد التقرير صحة حكم الإدانة. وقد حرّك نشر هذا التقرير اللوبي الصهيوني الفرنسي الذي أثار حملة على قيادة الجيش وعلى وزارة الدفاع موزعاً الاتهامات باللاسامية، مما حمل وزير الدفاع في ذلك الوقت فرانسوا ليوتار على عزل رئيس قسم التاريخ في الجيش من منصبه! كان حكم المحكمة العسكرية الفرنسية قد نصّ على تجريد دريفوس من رتبته العسكرية ونفيه إلى "جزيرة الشيطان" قرب "غويانا" الفرنسية، ولعل هذا السجن كان الأسوأ في التاريخ. مع ذلك تمكن يهود فرنسا من إثارة حملة تشكيك بالتهم المسوقة ضده وشارك فيها الكاتب الفرنسي "إميل زولا"، الذي اتهم قيادة الجيش الفرنسي (في مقال شهير له نشره تحت عنوان "إني أتّهم") بتلفيق القضية من الأساس للإساءة إلى يهود فرنسا. وتحت ضغط تلك الحملة أعيدت محاكمة دريفوس أمام المحكمة المدنية، حيث برّئ، وأعيد إليه اعتباره، ورفعت رتبته العسكرية وأعيد بالتالي الاعتبار إلى اليهود الفرنسيين. غير أن المحكمة العسكرية رفضت تبني هذا الحكم، وأصرّت على حكمها الذي سبق لها أن أصدرته، ولا يزال هذا الوضع مستمراً حتى الآن، رغم أن دريفوس الذي مات في عام 1935 كان قد ترك الجيش الفرنسي في عام 1907. ولقد تمكّن اللوبي الصهيوني في فرنسا من إقامة متحف تكريمي لدريفوس في باريس، والمطالبة بنقل رفاته من المقبرة اليهودية في "مون مارت" إلى "البانتيون" حيث رفات كبار الشخصيات الفرنسية أمثال بونابارت!.. ويتداخل مع هذه القضية أمران أساسيان في فرنسا: الأمر الأول هو انعكاس الصراع العربي- الإسرائيلي على العلاقات بين اليهود والمسلمين الفرنسيين، وذلك منذ أن اعتبرت إسرائيل أن أي انتقاد لسياستها هو نوع جديد من اللاسامية. أما الأمر الثاني فهو انعكاس القانون الإسرائيلي الذي يعتبر كل يهودي إسرائيلياً، على مفهوم الولاء الوطني ليس فقط عند يهود فرنسا، وإنما عند يهود كل دول أوروبا، وخاصة على يهود الولايات المتحدة. ففي عام 1987، كان الأدميرال "بوب راي اينمان" نائباً لرئيس وكالة المخابرات المركزية الأميركية "سي آي أيه"، عندما انكشفت فضيحة "جوناثان بولارد". و"بولارد" مواطن أميركي يهودي كان يعمل في الوكالة، وكان ينقل معلومات وأجهزة غاية في السرية إلى إسرائيل عن طريق السفارة الإسرائيلية في واشنطن. جرت محاولات لطمس القضية. غير أن "اينمان" وقد أذهله حجم ونوع المعلومات التي تم تسريبها إلى إسرائيل، وقف بالمرصاد ضد تلك المحاولات مصرّاً على محاكمة الجاسوس الذي أثبت عدم ولائه للأمة الأميركية. تدخل اللوبي الصهيوني في الكونغرس لدعم جهود السفارة الإسرائيلية وذلك على أساس أن عملية التجسس التي ثبتت وقائعها، تمت لمصلحة دولة صديقة -هي إسرائيل- وأن المعلومات والأجهزة التي وصلت إليها لم تستعمل ضد الولايات المتحدة، وأنه بالنظر لوجود اتفاقات تعاون استراتيجي بين الدولتين، فإن إسرائيل تصبح بفضل جهود "بولارد" أكثر قدرة على خدمة المصالح الأميركية في الشرق الأوسط. رفض "اينمان" هذا المنطق التبريري الذي يحاول أن يجعل من الخيانة بطولة. وأصر على طرد "بولارد" من الوكالة وإحالته إلى المحكمة بتهمة التجسس لمصلحة دولة أجنبية، خاصة وأنه تمكن من سرقة أجهزة سرية تمكن إسرائيل من السيطرة على دائرة استخباراتية يزيد قطرها على 250 ميلاً. وهذا ما حدث. فقد حوكم "بولارد"، وحكم عليه بالسجن مدى الحياة (إلا أن اللوبي الصهيوني تمكن من استصدار قرار قضائي بإطلاق سراحه في عام 1995 مع إبقائه تحت المراقبة). رغم ذلك فإنه عندما رشح الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون الأدميرال "اينمان" لمنصب وزير الدفاع بعد إحالته إلى التقاعد، تحركت الآلة الصهيونية في الإعلام وفي الكونغرس لقطع الطريق أمام وصوله إلى هذا المنصب السياسي- العسكري الرفيع. وتوسعت دائرة الحملة التشويهية حتى اضطر "اينمان" إلى الاعتذار عن قبول ترشيح الرئيس الأميركي له لمنصب وزير الدفاع. لم يستطع اللوبي الصهيوني الأميركي تحمل وجود شخص يعتبر معادياً لإسرائيل(؟) على رأس وزارة الدفاع الأميركية التي يعمل في مؤسساتها العسكرية المختلفة ثلاثة ملايين رجل، والتي تمسك بأكبر قوة مدمرة في تاريخ البشرية! ولم تكن قضية "جوناثان بولارد" الأولى التي تهز المجتمع الأميركي. فقد سبقتها قضية "شبيرو" وهو عالِم يهودي أميركي كان يعمل في إحدى المحطات النووية الأميركية (محطة أبولو في بنسلفانيا)، وتمكن من خلال ذلك من تهريب كميات كبيرة من اليورانيوم المخصّب إلى إسرائيل، الأمر الذي ساعدها على تشغيل مفاعل ديمونا في النقب لإنتاج ترسانة نووية يعتقد الآن أنها تضم أكثر من ألفي عبوة نووية. ورغم خطورة تلك العملية فقد تمكن اللوبي الصهيوني من طمس معالمها واحتواء ردات فعل العلماء والسياسيين والعسكريين الأميركيين، ربما لأنه لم تكن على رأس جهاز وكالة المخابرات المركزية في ذلك الوقت شخصية صلبة مثل الأدميرال "اينمان"! وفي الأساس يعزى قيام الحركة الصهيونية في أوروبا أصلاً إلى هزيمة الحركات الديمقراطية الغربية لمصلحة الحركات القومية في النصف الأول من القرن التاسع عشر (1830-1850). حيث كانت تلازم الحركات الديمقراطية المهزومة حركات يهودية مثل حركة "مندلسون" وحركة "الهسكالا" التي دعت اليهود إلى الانصهار في المجتمعات التي يعيشون فيها في إطار تميزهم الديني. وبانتصار الحركات القومية تحولت الحركة اليهودية إلى الصهيونية القومية العنصرية. غير أن الوضع تغير في أوروبا خاصة وفي الغرب عامة. وتقدمت الديمقراطية على القومية. إلا أن الحركة الصهيونية ظلت محافظة على مواقعها. ومع قيام إسرائيل صدر قانون الجنسية الذي يعتبر كل يهودي إسرائيلياً بمجرد أن تطأ قدماه أرض إسرائيل. وهذا الواقع يطرح ازدواجية الولاء اليهودي على النحو الذي كشفته أحداث عديدة في الولايات المتحدة وأوروبا. فليس المرء جاسوساً ولا خائناً لوطنه إذا كان فعل الخيانة والتجسس يصب في مصلحة إسرائيل (بولارد وشبيرو كمثالين على ذلك). ذلك أنه على قاعدة "شعب الله المختار"، يبدو أنه يحق لإسرائيل ما لا يحق لغيرها من الدول.. ويحق لليهودي ما لا يحق لسواه من بني البشر.