بعد أن فازت "حركة المقاومة الإسلامية" (حماس) في الانتخابات التشريعية الفلسطينية الأخيرة، وقامت بتشكيل حكومة، وبعد سقوط رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق آرييل شارون مصاباً بجلطة دماغية... أصبحت آمال السلام بين الشعبين أبعد من أي وقت مضى، خصوصاً إذا ما أخذنا في اعتبارنا عدم توافر الإرادة السياسية لدى خليفة شارون في الحكم "إيهود أولمرت". هذا ما يقوله "جيرشوم جورينبيرج" الصحفي الإسرائيلي، الأميركي المولود، في كتابه الموسوم: "إمبراطورية بالصدفة: إسرائيل وولادة المستوطنات خلال الفترة 1967-1977". يقول "جورينبيرج" إن أهم عمل قام به شارون هو سحب جيشه من قطاع غزة وإعلان نيته لسحب ذلك الجيش من أجزاء كبيرة من الضفة الغربية، لكن المشكلة الآن تكمن في خليفته الذي لا يتمتع بالبراعة والدهاء السياسيين اللذين كان يملكهما شارون! ويجري المؤلف بحثاً تاريخياً لموضوع المستوطنات وكيفية ظهورها وكيف بدأت القصة منذ البداية، وكيف تطورت حتى وصلت إلى وضعها الحالي. عقب حرب الأيام الستة عام 1967، وعندما كانت إسرائيل لا تزال في أوج زهوها بالهزيمة التي ألحقتها بثلاثة جيوش عربية، كانت الفكرة السائدة لدى ساستها هي أنهم سيحتفظون بالأراضي التي استولوا عليها من أجل استغلالها فيما بعد كورقة لمقايضتها مع العرب مقابل السلام الدائم. لكن الأمور، كما يذهب إلى ذلك المؤلف، مضت في اتجاه آخر... حيث شهد العقدان اللذان تليا حرب الأيام الستة-حسب تعبير الكاتب- فصول قصة كئيبة للاستيطان الطائش الذي يتم دون هدف محدد. فإسرائيل وجدت نفسها في ذلك الوقت وقد أصبحت تسيطر على أراضٍ تفوق مساحتها الأصلية بثلاث مرات، ولم تكن تدري ماذا تفعل بعد أن رفض العرب مقايضة تلك الأراضي بالسلام الدائم. ووصل الحال إلى درجة أن ليفي أشكول رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك وجد نفسه حائراً أمام هذه الغنيمة التي لم تكن تخطر على بال أحد. فهو من ناحية لم يرد أن يعيد هذه الأراضي لأصحابها لأنها غنيمة حرب، ومن ناحية أخرى لم يكن يميل للموافقة على ضمها إلى "أرض إسرائيل"، لأنه كان يعرف أن عليه في هذه الحالة ضم سكانها أيضاً والبالغ عددهم 1,1 مليون نسمة بما يعنيه ذلك من أعباء اقتصادية وأمنية ضخمة. وللتخلص من هذه الحيرة قرر أشكول اتباع سياسة "اللاسياسة"، والتي ظلت -ويا للمفارقة- تمثل السياسة الرسمية الإسرائيلية تجاه العرب في عهدي "جولدا مائير" ثم "إسحاق رابين". وكان من الطبيعي أن تؤدي مثل هذه "اللاسياسة" إلى حالة من الجمود أفرزت المناخ الذي أدى إلى نشوء المستعمرات. فمع تردد الساسة، وجمود الوضع، قررت فئة من سكان إسرائيل، معظمها من الشبان المتعصبين الذين يحلمون بإعادة "أمجاد إسرائيل" التوراتية، أن تأخذ زمام المبادرة في أيديها وأن تشرع في بناء مستعمرة صغيرة على أرض فلسطينية محتلة في حرب الأيام الستة. وارتكبت الحكومة الإسرائيلية خطأً مأساوياً في ذلك الوقت حين أذعنت لهؤلاء المستوطنين. حدث هذا الإذعان على مراحل بالطبع؛ ففي البداية، أرسلت الجيش لإزالة تلك المستوطنة... لكن المستوطنين سرعان ما بنوا مستوطنة أخرى، فعاد الجيش وأزالها... وتكرر الأمر عدة مرات، وفي النهاية قررت إسرائيل، بسبب أنها لم ترد الظهور بمظهر الدولة التي تستخدم العنف ضد قطاع من مواطنيها، الإذعان. ومما فاقم خطورة الوضع، أن أولئك المستوطنين لم يكونوا يعملون بمفردهم، وإنما كان لهم أنصار داخل الحكومة، لم يكونوا فقط من الصقور مثل "آرييل شارون"، بل يضمون أيضاً مجموعة من الحمائم مثل "شمعون بيريز"، و"إسحاق رابين" نفسه. وأدى غض الحكومة الإسرائيلية الطرف عن بناء المستوطنات إلى تكاثرها تدريجياً حتى أصبحت تشكل ضواحي منفصلة للمدن الفلسطينية التي أقيمت على أراضيها. ورغم أن بعض تلك المستوطنات كان ذا أهمية أمنية لإسرائيل فإن معظمها تم بناؤه على أراضٍ كانت تحمل مغزى تاريخياً أو دينياً معيناً للمستوطنين الذين أقاموها. ورغم أن المؤلف حاول خلال عرضه لتاريخ المستوطنات، أن يكون محايداً، وأن يظهر العواقب التي ترتبت على بناء تلك المستوطنات، فإنه فعل ذلك بشكل عام، ودون تطرق لتفاصيل المأساة التي عاشها الفلسطينيون جراء سياسة الاستيطان الإسرائيلية. فالفلسطينيون في كتابه عبارة عن كتلة صماء ليست لها صورة محددة ولا صوت. وفي الوقت نفسه لا يبين لنا المؤلف عقائد اليهود المتطرفين الذين أقاموا تلك المستوطنات، ولا منظوماتهم الفكرية والأخلاقية، ولا الأعذار والمبررات التي استندوا إليها في إقامة المستوطنات. والحقيقة أن إيجازه في هذا الموضع من الكتاب، رغم أهميته، ليس مفهوماً، خاصة أننا نراه في موضوعات ومسائل أخرى ليست ذات أهمية كبيرة، يغرق القارئ في كم هائل من التفاصيل التي لا داعي لها، ويسترسل في وصف المعالم الجغرافية، أو في وصف طبيعة الطقس في منطقة ما بصورة مبالغ فيها، وهو ما يشي بأنه إما لم يبذل جهداً كبيراً في البحث، أو بذل جهداً ولكنه كان غير منظم. رغم كل ذلك، فإن الكتاب لا يخلو من فائدة للقارئ، على الأقل لجهة أن المؤلف يبين فيه العواقب التي يمكن أن تنشأ عن قيام حكومة ديمقراطية بالخضوع والإذعان أمام قطاع من مواطنيها، كما يبين أيضاً أن السبب الأساسي في مشكلة المستوطنات هو عدم كفاءة الحكومة الإسرائيلية وليس الإيديولوجيا، وهو -المؤلف- عندما يفعل ذلك، فإنه يشير في الوقت نفسه إلى الجهة التي يمكن أن يأتي منها الحل النهائي لهذا الموضوع يوماً من الأيام! سعيد كامل الكتاب: إمبراطورية بالصدفة: إسرائيل وولادة المستوطنات المؤلف: جيرشوم نورمبيريج تاريخ النشر: 2006