ما يجري على الجبهة اللبنانية/ الإسرائيلية هو جزء من تداعيات عملية "أمطار الصيف"! فقبل أسبوعين، حققت العملية الفدائية التي جرت ضد موقع إسرائيلي عسكري محصن، نجاحاً كبيراً بالمقاييس العسكرية. حيث استطاعت مجموعة من الفدائيين مزودة بأسلحة خفيفة مهاجمة الموقع والاشتباك مع حراسه وقتل اثنين منهم والعودة بالثالث أسيراً. وقد أثارت هذه العملية الناجحة بكل المقاييس غضباً شديداً في إسرائيل، لاسيما في الأوساط العسكرية، وذلك لعدة أسباب لعل من أهمها: أن طبيعة الموقع المستهدف جعلت العالم لا يقبل بوصف إسرائيل له بأنه عمل "إرهابي". بل إن الصحافة العبرية، وغيرها كذلك، عجزت عن الادعاء بأنه يستهدف "المدنيين الأبرياء"! وثانياً، شكل ذلك الهجوم الجريء ضربة كبيرة انعكست سلباً على معنويات الجيش الإسرائيلي، وبالدرجة نفسها على معنويات باقي الإسرائيليين. فإذا استطاع المقاومون الفلسطينيون اقتحام موقع عسكري مدجج، فما بالك بـ"المستوطنات"/ المستعمرات والتجمعات المدنية الأخرى؟ ومن ناحية ثالثة، عكست هذه العملية مدى الجرأة والخبرة التي يتمتع بها مقاومون فلسطينيون. فإضافة إلى البطولة التي أبداها هؤلاء في تلك العملية، فإن السؤال المتردد إسرائيلياً، وغير ذلك، تركز حول توقيتها في ظل حديث (واستعداد) كان يدور عن اعتزام جيش الاحتلال اقتحام قطاع غزة منذ مدة طويلة، وإنشاء "منطقة عازلة" في شمال القطاع لمنع إطلاق صواريخ القسام باتجاه مدينتي "سديروت" و"عسقلان". كما جاءت العملية في خضم الجهود والسياسة الإسرائيلية بالدخول مباشرة على خط التوترات الداخلية بين الفلسطينيين وتنشيط عمليات الاغتيال والقتل، وذلك لاستدراجهم إلى مواجهات عسكرية هي بالتأكيد ليست في صالحهم في مثل هذا الوقت... بينما قد أعدت إسرائيل ما أعدت وحشدت ما حشدت! لقد توخت إسرائيل من دخولها على خط الأزمة (التي بدت وكأنها آخذة في التعمق بين الفلسطينيين) تكوين الفرصة السانحة لفرض الحل الأحادي في الضفة الغربية (سياسة الانطواء) وفق ادعاءاتها المتواصلة بأنه ليس ثمة "شريك فلسطيني" للتسوية، وأن الفلسطينيين "غير مؤهلين لإدارة أوضاعهم"، وأن الاحتلال "ليس هو السبب وراء تأزم الأوضاع" داخل المناطق الفلسطينية! وفي ظل هذه النوايا الإسرائيلية، توجب على الفلسطينيين إيجاد أرضية مشتركة للتفاهم فيما بينهم ومحاولة قطع الطريق على خطة أولمرت التي تعني في المحصلة النهائية التنصل من استحقاقات التسوية وتحميل مسؤولية الفوضى في مناطق السلطة للفلسطينيين أنفسهم باعتبار أنهم "غير مؤهلين" لحكم أنفسهم بأنفسهم. فخطة أولمرت للانسحاب الأحادي الجانب من الضفة هدفت ليس فقط إلى "الحفاظ" على طابع الدولة العبرية كدولة يهودية والتخلص من الخطر الديموغرافي العربي، وإنما هدفت أيضاً إلى عدم تحول إسرائيل مستقبلاً إلى دولة ثنائية القومية. فانسحاب إسرائيل من معظم أراضي الضفة، فيما عدا "المستوطنات" الكبيرة المحيطة بالقدس وغيرها، وانكفاؤها إلى ما وراء السور العازل، إنما يهدف إلى إبعاد صفة "الدولة المحتلة" عنها، و"التحرر" بالتالي من تبعات سيطرتها على حياة الفلسطينيين، وتحسين صورتها في العالم كدولة ديمقراطية، وهي الصورة التي تلطخت كثيراً في الآونة الأخيرة. فقد رأى أولمرت ومؤيدوه أن الحل الأحادي الجانب سيشكل مخرجاً مناسباً لهم من تبعات احتلال وحكم شعب آخر، وسيمكنهم من الادعاء بأن إسرائيل قد انسحبت من معظم الأراضي المحتلة في عام 1967، وأنها بالتالي لم تعد معنية بما يحدث للفلسطينيين بعد انسحابها وأنها لا تتحمل أي مسؤولية عنهم! في هذا السياق، ووفقاً لأدبيات متزايدة في الوسطين الإسرائيلي والدولي، فإن هدف عملية "أمطار الصيف" ليس إطلاق سراح الجندي الأسير فحسب! فإطلاق سراح جندي، بهذا الحجم من العنف، سيؤدي إلى نتائج عكسية قد يكون ثمنها حياة الجندي نفسه كما حصل سابقاً عندما حاول إسحاق رابين إطلاق سراح الجندي "واكسمان" بعملية عسكرية ضخمة، فكانت النتيجة قتل الجندي وفشل العملية. من هنا، فإن الهدف الأوسع لهذه العملية هو إلحاق الشلل بالحياة السياسية الفلسطينية، والعمل على مزيد من إنهاك السلطة، وأيضاً إسقاط الحكومة التي تقودها حركة "حماس". فاختطاف عدد كبير من وزراء الحكومة الفلسطينية ونواب "حماس" في المجلس التشريعي، إنما هدف إلى ضرب قطاع أساسي في السلطة الوطنية الفلسطينية لتبدو عاجزة عن إدارة دفة وتسيير الحكم لتزيد من تعقيد الأمور. وكما جاء في صحيفة "يديعوت أحرونوت" فإنه: "إذا لم تتم إعادة الجندي الأسير حياً فلن يعود هناك وجود لحكومة حماس، حيث ستمحو إسرائيل هذا المفهوم من خريطة الشرق الأوسط السياسية". إن الواضح الآن من التصعيد الإسرائيلي هو تحول عملية "أمطار الصيف" إلى عملية لإعادة احتلال قطاع غزة (ولو مؤقتاً) واستغلال تداعيات ذلك الاحتلال سياسياً بإسقاط الحكومة الفلسطينية والمجلس التشريعي المنتخب، ليسهل بالتالي على إيهود أولمرت دفع الأمور نحو مزيد من إضعاف السلطة الفلسطينية لتنفيذ خطته المعدة منذ مدة، أي "اضطراره" إلى التصرف بشكل أحادي الجانب وتطبيق (خطة الانطواء) في الضفة الغربية بحجة عدم وجود شريك أو محاور فلسطيني يمكن التفاهم معه. ومما يؤيد هذا الرأي قول وزير "الدفاع" الإسرائيلي عمير بيريتس: "إن العملية العسكرية الحالية التي تستهدف حماس قد تم التخطيط لها منذ وقت طويل وإن حادث الاختطاف قد فتح الباب لتنفيذها"! إن أية مراجعة للأدبيات السياسية الرصينة في إسرائيل وخارجها توضح أن هدف الحكومة الإسرائيلية من العنف المتصاعد هو محاولة إسقاط حكومة "حماس" بعد فشل حكومة أولمرت النسبي في استدراجها (من خلال قتل المدنيين الأبرياء والنشطاء الفلسطينيين) إلى نبذ الهدنة وإنهاء التهدئة والعودة إلى المقاومة المسلحة! وتتجلى محصلة ذلك السلوك الإسرائيلي في أن حكومة أولمرت لا تريد التفاوض مع الفلسطينيين بجدية على قاعدة أنه لا يمكنها أن تعتبرهم شركاء في مفاوضات سلمية مهما فعلوا! وهذا هو الاستنتاج الذي يترسخ أكثر فأكثر في أذهان مراقبين كثيرين. وانتهزت إسرائيل فرصة التوتر الذي صعدته هي بعمليتها العسكرية الواسعة النطاق لتعلن أنها أوقفت التحضيرات للقاء بين رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس وأولمرت. وهكذا، تغلق الحكومة الإسرائيلية الباب الآن أمام المفاوضات لأنها مصممة أصلاً على تطبيق خطتها أحادية الجانب في الضفة الغربية لتبتلع عن طريقها مساحات أخرى واسعة من فلسطين وترسم حدودها الشرقية على حساب الفلسطينيين وحقهم في التحرر من الاحتلال وإنجاز الاستقلال في دولة على كامل الأراضي التي احتلت في حرب يونيو 1967 بما في ذلك القدس الشرقية. فأي جهة تحسب أن إسرائيل يمكن أن تتفاوض مع الفلسطينيين وفقاً للقانون الدولي والاتفاقات الموقعة وقرارات الأمم المتحدة... إنما توقع نفسها في وهم كبير. وعند هذه النقطة يكمن الفارق ما بين ادعاءات إسرائيل والحقائق كما هي على أرض الواقع المعيش!