إذا كان هناك تعريف مختصر فعلاً لظاهرة معقدة مثل العولمة، فهو تمثيل وتجسيد هذه الظاهرة بوجود مجتمع مدني عالمي، أي كثافة علاقات متشابكة ليس فقط بين الدول كما هو الحال في العلاقات الدولية التقليدية منذ الأزل، ولكن أيضاً بين الشعوب والأفراد. هذا التجسيد للعولمة واضح عند الكلام عن الإنترنت وباقي وسائل الإعلام، لكن لتجنب الكلام المعاد، فسأركز على ما أسميه "المدن الدولية"، والتي تكتسب هذه الصفة لأن سمعتها دولية كالمدينة السويسرية جنيف -المقر الأوروبي للأمم المتحدة- ولكن أيضاً لأن مواطنيها، وليس سكانها فقط، هم دوليون كذلك، أي ينتمون لجنسيات متعددة، ويحملون أكثر من جواز سفر، ويندمجون في أكثر من ثقافة: هندية، أو آسيوية، أوروبية وأميركية. وقد يكون من أحدث التصويرات لهذا المجتمع العالمي داخل المدينة الواحدة، هو الرواية الواقعية التي نشرها أخيراً المحرر البريطاني الشاب بجريدة "الفاينانشيال تايمز" جوتم مالكاني الذي تخرج حديثاً من جامعة كمبردج. اختار مالكاني عنوان روايته بمهارة: "لندنستاني". والعنوان مشتق من الجمع بين كلمتين: العاصمة البريطانية (لندن)، وغالبية من سكان أحيائها من هندوستان أو الباكستان. وفي الواقع فالرواية تقوم على أبطالها من هذه البلاد الآسيوية، والذين ولدوا ونشأوا في حي "هاونسلو" القريب من هيثرو، وهي رواية محكمة ورائعة في تصويرها التمازج أو التصارع المميّز لهذه المدن الدولية التي تعكس بدورها المجتمع المدني العالمي، والذي يعكس هو الآخر بدوره بوتقة الانصهار التي نسميها العولمة. العولمة هي فعلاً بوتقة انصهار تجمع بين الشامي والمغربي والشرقي والغربي، ولكن- وهذا هو المهم- فإن العناصر العرقية المميزة لا تختفي تماماً، بل تنتظر الفرصة لتعبر عن هويتها، كما حدث الأسبوع الماضي أثناء نهائي كأس العالم. فمن ناحية: مظاهر العولمة طاغية فعلاً، حيث يشترك أكثر من 1.5 مليار نسمة من دول وثقافات مختلفة في مشاهدة حدث واحد في الوقت نفسه، رغم اختلاف زمانهم ومكانهم. الفريق الفرنسي لا يبدو فعلاً فرنسياً حسب مفهومنا، لأن غالبيته من ذوي البشرة غير البيضاء، بل إن كابتن الفريق نفسه، والذي حاز على كأس العالم لهذا البلد أمام البرازيل سنة 1998، هو زين الدين زيدان! لكن رغم اختلاف لون البشرة أو الاسم، فكل أعضاء الفريق مواطنون فرنسيون، إن لم يكن بالجذور البعيدة، فعلى الأقل بالمولد. فمثلاً زين الدين وُلد من أب جزائري ولكن في الثغر الفرنسي الشهير: مارسيليا عام 1972، والشيء نفسه ينطبق على كثير من الأفارقة السود، سواء ماكيليلي أو ثومار أو غيرهما ممن مثلوا فرنسا وتغنوا بسلامها الوطني في بداية كل المباريات التي تضمنها كأس العالم هذا العام. أستطيع الاستمرار في بيان مظاهر العولمة، ولكن ما يهمني هنا هو لفت النظر إلى الظاهرة المضادة: أي عدم اختفاء الخصوصية العربية، سواء كانت جماعية مثل القومية أم فردية ترتبط بشخص معين، ولنأخذ بعض الأمثلة لتوضيح هذه الظاهرة: فحتى قبل بداية المباراة النهائية بين فرنسا وإيطاليا بأيام، بدأ في الظهور ما نسميه في نيويورك أو مونتريال أو سان فرانسيسكو أو غيرها من "المدن الدولية"، بـ"فرنسا الصغيرة" أو "إيطاليا الصغيرة"، وهي أحياء كبيرة أو مدن داخل هذه المدن الدولية يتجمع فيها المهاجرون والمغتربون، وتسود مطاعمهم ولغتهم وأزياؤهم... وغيرها من سماتهم القومية، بمناسبة المباراة النهائية! وعن الناحية الشخصية في زمن العولمة، فإن أفضل ما يجسدها هو الطريقة المحزنة التي أنهى بها النجم العالمي زيدان تاريخه الكروي، وسلوكه العنيف الذي طرح خصمه الإيطالي أرضاً. ورغم أن سبب هذا السلوك العنيف لا يزال لغزاً حتى كتابة هذا المقال، فإن الشائعات ترجح الاستفزاز من جانب اللاعب الإيطالي الذي أوقع زيدان في فخ سهل. ويبدو أن استفزاز اللاعب الإيطالي كان إهانة الجذور العرقية لزيدان وخاصة من ناحية أمه، ونحن نعرف مكانة الأم وكرامتها في الثقافة العربية. وهكذا فرغم بوتقة انصهار العولمة، فإن كابتن الفريق الفرنسي لم يستطع السيطرة على عواطفه وسلوكه عند الاعتداء اللفظي على أصوله العرقية أو أمه!