في العادة لا يعلم المواطنون البريطانيون سوى النزر اليسير جداً عن أفغانستان, التي طرأ عليها تبدل كبير الآن. ففي بحر الثلاثة أسابيع الماضية فقط, لقي ثلاثة جنود بريطانيين مصرعهم في محافظة هلمند الجنوبية الأفغانية. وفي الوقت الذي عارضتُ فيه غزو الرئيس بوش للعراق –مثل كثيرين من البريطانيين غيري- كنت قد رأيت في قصفه الجوي لـ"طالبان" في نوفمبر من عام 2001 عملاً مشروعاً وضرورياً, لكونه جاء رداً عملياً لازماً على أسامة بن لادن الذي تباهى وقتئذ, بتدبيره وشنه لهجماته الإرهابية على الولايات المتحدة الأميركية في 11/9, انطلاقاً من الأراضي الأفغانية. وما دعاني إلى تأييد ذلك القصف دون تحفظ أن قوات "طالبان" لم تكن تنوي تسليم ابن لادن مطلقاً للولايات المتحدة, كي تتم محاكمته على ما ارتكبه من جرم بحقها وحق مواطنيها. وللسبب عينه فقد أصابت الأمم المتحدة أيضاً في تأييدها للرد الأميركي على تلك الهجمات. وداخل أفغانستان نفسها, كانت الوحشية والقسوة هما قوام ثقافة نظام الحكم السائد أيام "طالبان". وكان طبيعياً أن يضع ذلك النظام القادم من القرون الوسطى حقوق الإنسان جانباً وألا يأبه بها أبداً. وبالنتيجة فقد شاعت ممارسات الإعدام العلني للمواطنين والإبقاء على الجثث مُعلقة في الساحات العامة إرهاباً وعبرة للآخرين. وكان هناك تخريب مبني على إيديولوجيا منظمة يستهدف تقويض التراث الثقافي الحضاري للشعب الأفغاني, خاصة تدمير "طالبان" لتماثيل "بوذا" العملاقة في محافظة باميان, مع العلم بأن تلك التماثيل كان قد نحتها رهبان "بوذيون" خلال القرنين الرابع والسادس الميلاديين. وبصفة عامة, فإن أبرز ما يميز عالمنا المعاصر هو انتقال وانتشار فوضى الدول الفاشلة إلى الدول المجاورة والقريبة منها. من ذلك مثلاً التداعيات التي خلفها انهيار جمهورية الكونغو الديمقراطية, على عدة دول أخرى في أفريقيا. أما الانهيار الداخلي لأفغانستان, فقد كان بمثابة تهديد جدي خطير لباكستان المجاورة, وكذلك لإيران وعدد من دول وجمهوريات آسيا الوسطى. إلى ذلك فإن لتجارة المخدرات في أفغانستان وللاجئيها تأثيرات سالبة ذات طابع دولي عام. وليس أدل على ذلك من تدفق مخدرات الهيرويين إلى بريطانيا تقليدياً من أفغانستان. هذا وقد حققت أميركا نصراً خاطفاً سريعاً على نظام "طالبان" في عام 2001, بالتعاون مع تحالف أفغاني ضم في صفوفه مقاتلين من أربعة فصائل مجاهدين, كان يعرف حينها بـ"تحالف الشمال". غير أن مشكلة حصيلة تلك الحرب هي أن قوات "طالبان" تمكنت من الإفلات بجلدها وقتئذ. وتمكن الكثير من مقاتليها المسلحين, من التوغل إلى عمق الحدود الباكستانية. كما لا يزال أخطر قادة الإرهاب, ممثلين في شخصيتي أسامة بن لادن والملا عمر, حيين طليقين, على رغم مشاركة نحو 18 ألف جندي أميركي في مهمة البحث عنهما, إلى جانب تدمير كافة نقاط العمليات المناوئة الجارية حينها في منطقة الجبال الواقعة شمال جنوبي أفغانستان. وفي المقابل فقد اتخذت خطوات جبارة نحو تحويل أفغانستان إلى دولة ديمقراطية تحت قيادة الرئيس حامد قرضاي شديد الولع بالنموذج الغربي. يذكر أن قرضاي كان قد انتخب للمنصب الرئاسي في أكتوبر من عام 2004, وفاز حينها بنسبة 55.4 في المئة من أصوات الناخبين, مما فتح الباب أمام تشكيل حكومة ديمقراطية جديدة. واليوم فإن هناك برلماناً أفغانياً في كابول, جرى فيه تمثيل كافة الجماعات العرقية الرئيسية في البلاد, إضافة إلى تمثيل الكثير من المجموعات والتيارات المختلفة. لكنَّ ما يثير دهشتي ودهشة غالبية البريطانيين غيري, هو هذه العودة الغريبة لفلول حركة "طالبان" المندحرة. والملاحظ أن الجيش الوطني الأفغاني –الذي يعاني إهمالاً واضحاً- وإلى جانبه قوات الشرطة التي يصعب التعويل عليها, يحاولان معاً بسط السيطرة الأمنية على المدن الرئيسية خلال ساعات النهار. إلا أنهما يعجزان عن الحيلولة دون استمرار وتصاعد الهجمات الانتحارية التي ينفذها مقاتلو "طالبان" وتنظيم "القاعدة". بل لقد تعرضت بعض الدوريات المشتركة بين قوات الجيش والشرطة للاعتداءات حتى داخل العاصمة كابول نفسها. أما في المناطق الريفية فتنتشر عصابات التمرد في أنحاء كبيرة منها. وفي الوقت ذاته يتعرض المواطنون الذين يعملون لصالح التحالف الدولي للتهديد أو القتل بكل بساطة. وتعليقاً على هذا, فإن رونالد نيومان السفير الأميركي بالعاصمة كابول, كان واضحاً كل الوضوح في قوله: "ليس من سبيل لنا لكسب هذه الحرب عسكرياً في الأمد المنظور بأية حال. وفيما لو تراجعنا عما قطعناه فيها من شوط, فإن ذلك يشكل خطراً كبيراً علينا". وإذ أعيد ما قاله ذلك السفير هنا, أؤكد أن مستوى القوات الموجودة حالياً في أفغانستان لا يكفي لمجرد الحفاظ على الوضع الحالي. وللحقيقة فإن التقدير الصحيح للوضع الأمني الراهن هناك –بما فيه أن تكون لنا اليد العليا على قوات "طالبان" وتنظيم "القاعدة", وأن نبدأ بتحقيق انتصارات ملموسة في جنوب شرقي البلاد- يتطلب وصول آلاف عديدة من القوات عالية الكفاءة الحربية والمزودة بالعتاد العسكري اللازم, إلى جانب توفير ما يلزمها من تغطية جوية. على ألا نستبعد بعد هذا كله, احتمال استمرارية الحرب ضد فلول "طالبان" وتنظيم "القاعدة" لعقد كامل أو ربما يزيد عليه. والسؤال الذي لابد من طرحه هنا: من أين ستأتي كل هذه القوات الأجنبية, ومن الذي سيتولى مهمة منازلة قوات "طالبان" في عقر دارها؟ يذكر هنا أنه قد تقرر خفض عدد القوات الأميركية المرابطة حالياً في أفغانستان, بنحو 3 آلاف جندي خلال العام الجاري. وفي المقابل فقد وافق حلف "الناتو" في شهر ديسمبر المنصرم, على رفع عدد قواته الحالية من 10 آلاف جندي إلى 16 ألفاً. ولكن المشكلة أنه يواجه صعوبات جمة هناك. ويتولى حالياً الجنرال البريطاني سير ديفيد رتشاردز, منصب القائد العام لكافة قوات "الناتو" الموجودة في أفغانستان, إضافة إلى تولي الحلف المسؤولية كاملة عن جميع المحافظات الجنوبية. ومن جانبها تخطط بريطانيا لأن يكون لها 5 آلاف جندي هناك. وضمن ذلك, فقد انتقل الفصيل الثالث, وكتيبة المظلات -وهي وحدة عسكرية شرسة متمرسة- إلى محافظة هلمند منذ عدة أسابيع. غير أن محرر صحيفة "التايمز" المرافق لتلك القوات, ذكر في السادس من يوليو الجاري, أنها تتعرض لهجمات يومية تقريباً. وعلى الرغم من أن الهدف الرئيسي لوجود القوات البريطانية في أفغانستان, هو المساعدة في عملية إعادة البناء, إلا أن تصاعد نشاط قوات "طالبان", يتطلب تغيير تلك المهمة. هذا وقد أبدى "مجلس العموم" قلقه مؤخراً, جراء نقص عدد القوات الأفغانية وقوات التحالف الدولي وضعفها أمام مصاعب وتحديات مهمة كسر شوكة "طالبان".