بدأت صباح يوم الثلاثاء بالنبش قليلاً في الذاكرة بعدما أعادتني إلى الوراء الجمل التي قرأتها في كتاب زميلتي السابقة في "وول ستريت جورنال" الذي بعثته لي من نيويورك. كان الكتاب حول الكارثة "التي غلفت مانهاتن بسحابة من الغبار السام وحجبت الشمس برهة من الزمن" محيلة إلى الهجمات التي هزت نيويورك صبيحة يوم 11 سبتمبر 2001. وبعد اثنتي عشرة ساعة على قراءتي لتلك الجمل البليغة والقاسية في الوقت نفسه أوردت المحطات التلفزيونية في الهند نبأ وقوع تفجيرات في قطارات مومباي خلال وقت الذروة بالقرب من محطة "باندرا" التي نزلت فيها قبل ساعة فقط من التفجيرات. وبما أن القطارات تنقل ما يزيد على ثلاثة ملايين موظف يقطعون المسافة يومياً من البيت إلى العمل توقعت أن يكون من بين الضحايا الكثير من المعارف والأصدقاء. وبينما كنت أحاول استيعاب ما يجري توالت التفجيرات الواحد تلو الآخر لتصل عند حلول المساء ثمانية تفجيرات متتالية لا يفصلها عن بعضها بعضاً سوى دقائق معدودات. ورغم جسامة الكارثة وفداحتها إلا أنها ليست المرة الأولى التي تشهد فيها مومباي اعتداءات بالقنابل. ففي 12 مارس 1993 انفجرت عشر قنابل مخلفة 257 قتيلاً زارعةً الرعب في أوصال المدينة التي كانت تعرف حينها ببومباي. ومنذ ذلك الوقت والمدينة هدف للتفجيرات الآثمة التي كان آخرها انفجار 2003 وقد طال أحد رموز مومباي، وتحديداً موقع "بوابة الهند" الشهير. ورغم اعتياد سكان المدينة على الأوقات العصيبة التي حلت بمومباي طيلة الثلاث سنوات الماضية، إلا أن الخطوب التي تلاحقت في العشرة أيام الأخيرة جعلت السكان يتهيبون من الأسوأ. فقد ضربت أمطار غزيرة المدينة متسببة في فيضانات كاسحة غمرت مومباي بأكملها في ثلاثة أيام معيدة إلى أذهان الناس أمطاراً طوفانية أخرى سبق وأن هطلت على المدينة في 26 يوليو من العام الماضي وأسفرت عن مقتل أكثر من 400 شخص غرقاً وتشريد المئات غيرهم من السكان. كانت تلك إحدى الكوارث التي كشفت عن هشاشة المدينة في ظل سنوات طويلة من إهمال المسؤولين والفساد المستشري بينهم، فضلاً عن ذيوع الجشع بين السياسيين، والمنعشين العقاريين ما قضى على مومباي وجعلها تخر أرضاً. وبعد تاريخ 26/7 كما سمي في الصحافة المحلية انبرى رجال السياسة والمسؤولون يطمئنون الناس بتحسن أوضاع المدينة، ليكتشفوا بأن وعودهم كانت واهنة كغثاء السيل الذي اجتاح منازل المدينة في الأسبوع الماضي. وعندما توقفت الأمطار الغزيرة وبدأنا نتنفس الصعداء عكرت صفو مومباي جماعة المخربين من المتطرفين الهندوس الذين عاثوا فساداً في المدينة حين أضرموا النار في الحافلات ونهبوا المتاجر بدعوى احتجاجهم على تدنيس أحد تماثيلهم المقدسة، ولم يجدوا سوى العنف الأعمى وسيلة لذلك. لكن رغم تاريخ العنف الطويل في مومباي كانت المدينة دائماً تعرف كيف تلملم جراحها وتقف على رجليها من جديد ليستأنف السكان حياتهم العادية في هدوء. وهكذا سارعت الصحافة في مومباي إلى الإشادة بروح المدينة مسبغة عليها وصف "المدينة التي لا تقهر"، وزاد الإطراء عن حده إلى درجة الإزعاج. فقبل مغادرتي للمكتب مساء يوم الثلاثاء قرأت مقالاً يشتكي فيه كاتبه من المبالغة في الإشادة بروح المدينة التي لا تهزم ومقاومتها للأزمات لأنها تؤدي في النهاية إلى تنصل المسؤولين من الاضطلاع بواجباتهم تجاه مومباي. وكأنه ما دامت المدينة قادرة على التحمل والصمود لوحدها فلا داعي إذن لحل المشاكل أو معالجتها قبل حدوثها، وهو ما يجري فعلاً في مومباي الآن. فبعد ساعات قليلة على التفجيرات توجهت إلى أقرب مستشفى للتبرع بالدم لأجد مئات السكان ينتظرون دورهم للتبرع أيضاً، كما هرع سكان الأكواخ المجاورة لموقع الحادث وهم يحملون الأغطية لمساعدة الناجين وانتشال الضحايا. وما هي إلا سويعات حتى امتلأت أرجاء المدينة بمشاعر التعاطف وحفلت بمشاهد الإيثار من خلال مساعدات السكان للضحايا ووقوفهم إلى جانبهم، وهنا عادت بي الذاكرة لأتذكر ما جاء في المقال. فالمدينة ستذهب إلى نوم هنيء بعد التفاني في تقديم العون للضحايا كي تمر الكارثة دون أدنى مساءلة لمن يفترض بهم السهر على حماية المدينة والنهوض بأعبائها. ناريش فيرنانديز ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ رئيسة تحرير صحيفة "تايم أوت أوف مومباي" ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"