في منطقة داغستان المضطربة الواقعة في بحر قزوين, يمكن أن تؤدي خطوة تقديم دعوى قضائية ضد أحد رجال الشرطة إلى الاعتقال, كما يقول المحامي المحلي "عثمان بولاييف". وأوضح بولاييف قائلاً إنه تعرض للاعتقال والضرب على يد قوات الأمن الروسية, إثر تقديمه عريضة استئناف لأسرة قتلت ابنتها خلال مداهمة لقوات الشرطة, رفعت إلى المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان. وليس ذلك فحسب بل لقد لفقت ضد المحامي تهمة حيازة سلاح غير مرخص. وبينما نفى "بولاييف" تلك التهم معرباً عن سخريته منها, أكد في الوقت ذاته أنه رجل قانون وأنه شخص ملتزم ويعمل دائماً في إطار القانون. غير أن مشكلة روسيا أنها تعاني من قبضة حكومية خانقة, ومن تجفيف منابع الحوار بينها وبقية العالم بأسره, كما يقول "بولاييف". ولهذا قرر المحامي ألا يلتزم الصمت إزاء ما حدث, فانضم إلى بضع مئات من المعارضين توافدوا جميعهم إلى العاصمة موسكو, من أجل فضح الوجه الآخر لروسيا, الذي يسعى الرئيس فلاديمير بوتين إلى إخفائه عن القادة المشاركين في قمة الدول الثماني الكبرى, المقرر انعقادها بين 15-17 من يوليو الجاري في مدينة سانبطرسبرج. وقد وُصفت هذه القمة الموازية المضادة التي اتخذت لها اسم "روسيا الأخرى" التي انعقدت أول من أمس الثلاثاء, وُصفت من قبل مؤيدي "الكريملن", بأنها تجمع لشتات نكرات وشخصيات هامشية تمتد من أقصى "اليسار" الشيوعي إلى أقصى "اليمين الوطني" المتطرف, ممن عجزوا عن التكيف مع "روسيا بوتين" الناهضة اقتصادياً وسياسياً, الموحدة والمستقرة اجتماعياً، على حد قولهم. غير أن المشاركين في قمة "روسيا الأخرى", ومن بينهم رئيس الوزراء السابق "ميخائيل كاسيانوف", وبطل الشطرنج السابق "غاري كاسباروف", واثنان من المستشارين السابقين للكرملين, أكدوا أن الهدف الرئيسي لتجمعهم هو فضح الوجه الزائف لروسيا بوتين, لاسيما وأن جهاز الدولة البيروقراطي "يشن حرباً" واسعة النطاق وراء ذلك الوجه, على المجتمع المدني الروسي بأسره. ومن رأي "أندريه إلاريانوف" منظم القمة الموازية المذكورة, أن النموذج البيروقراطي الرسمي الذي فرضته السلطات, هو في الواقع احتكار من قبل الدولة للاقتصاد والاستثمار, وللسياسة والأيديولوجيا, بل للمجتمع المدني كله. وكان "أندريه إلاريانوف" قد أرغم على تقديم استقالته من منصبه كمستشار اقتصادي للكريملن في شهر ديسمبر من العام الماضي, لاجترائه على الجهر بما لا يحلو للكرملين: "نحن نساند حق المواطنين في الاختيار, أي حقهم في مناقشة البدائل والخيارات المتاحة أمامهم بمطلق الحرية. وكذلك حقهم في الاختيار الحر لما يرغبون فيه". ومن جهة ثالثة يرى الخبراء والمراقبون لتطورات الأوضاع هناك, أن المجتمع الروسي منقسم على نفسه بين أغلبية ارتضت فرض قيود نسبية على الحريات العامة, مقابل التمتع بمزايا الازدهار الاقتصادي واستتباب الأوضاع الأمنية, وأقلية تمسكت بموقفها ورأيها السياسي المعارض لسياسات بوتين. وكان استطلاع عام للرأي العام الروسي, أجرى في شهر يونيو الماضي بواسطة "مركز أبحاث الرأي العام" الحكومي, قد أظهر أن نسبة 49 في المئة من المواطنين الروس, تعبر عن "سعادتها" بالوضع السياسي القائم, مقابل نسبة 18 في المئة منهم, عبرت عن "عدم سعادتها" بذلك الوضع. والحقيقة أن روسيا شهدت خلال السنوات السبع الماضية من رئاسة فلاديمير بوتين, نمواً اقتصادياً قوياً, ربما كان الدافع الرئيسي له الارتفاع المتصاعد والمطرد لأسعار النفط العالمي, مع العلم بأن النفط يمثل أهم الصادرات الروسية على الإطلاق. لكن وفي غضون ذلك, فقد أسفرت سياسات بوتين المعتمدة على إدارة الدولة لمعظم الشركات والاستثمارات الاقتصادية في البلاد, عن هيمنة الدولة على مفاصل الحياة كلها, بما فيها شبكات وقنوات التلفزيون, وخنق الرأي العام والحيلولة دون إدارة حوار حر بين مختلف الآراء والمواقف المتباينة داخل المجتمع الروسي. وبالنتيجة فقد تراجعت الممارسة الانتخابية الديمقراطية, تاركة المجال أمام هيمنة وسيادة مؤيدي وأتباع الكرملين, ممن يدعون لأنفسهم تمثيل "روسيا الموحدة"! ومما ترتب على هذا الوضع, إبداء الكثير من الجماعات والمنظمات المستقلة, مخاوفها وقلقها من القوانين الجديدة المنظمة لنشاط الجمعيات والمنظمات غير الحكومية, وكذلك من صدور تشريعات جديدة تصف بعض الانتقادات الموجهة إلى السلطات الرسمية بـ"التطرف". والخوف بالطبع أن تستخدم هذه القوانين والتشريعات لقمع وإخماد أية أنشطة لا تتفق ونهج "الكرملين". وعلى حد تصريح "يوري دزيبلازدي" –رئيس "المركز المستقل للتنمية والديمقراطية وحقوق الإنسان" بموسكو- فإن الوصف الدقيق لما تشهده روسيا حالياً, ليس مجرد تقييد للحريات فيها, بقدر ما هو انحراف كامل عن النظام الديمقراطي بمجمله. ولذلك فإن من رأي البعض أن قمة "روسيا الأخرى" التي عقدت مؤخراً, إنما تشكل عودة للتقاليد السياسية المعروفة لروسيا, باعتبارها أرض الانقسامات والانشقاق السياسي. إلى ذلك زعم المنظمون للقمة, تعرض بعض الوفود والمشاركين للتهديدات وممارسة الترهيب من قبل قوات الشرطة والأمن الروسيين, بما فيها التهديد بالاعتقال, في مسعى لمنعهم من عقد قمتهم المناوئة. فريد واير ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مراسل صحيفة "كريستيان ساينس مونيتور" في موسكو ينشر بترتيب خاص مع خدمة "كريستيان ساينس مونيتور"