الرياضة عامة هي أحد النشاطات الإنسانية التي تهدف إلى السمو بالنفس البشرية. والتنافس الرياضي بين الفرق الرياضية ليست غايته النهائية تسجيل النصر أو الهزيمة على فريق ما ضد آخر، بقدر ما يهدف إلى تحقيق التواصل الإنساني والتنافس الشريف لإبراز القدرات والكفاءات. واللعبة الفنية الجميلة يجب أن تحظى بإعجاب وتشجيع المشاهدين من أي لاعب جاءت، بغض النظر عن البلد أو الفريق الذي ينتمي إليه اللاعب الذي حقق اللعبة الفنية الجميلة. وكرة القدم هي الرياضة الأكثر شعبية في العالم، والتي لا يقارن عدد المعجبين والمتابعين لها بأية رياضة أخرى. ومنافسات كأس العالم هي الساحة التي تتنفس فيها الإنسانية -أو هكذا يجب- بعيداً عن السموم اليومية التي يتجرَّعها الناس كل يوم من هموم الصراعات السياسية والحربية، والتهديد القائم والمتوقع بأيام أكثر ظلاماً تهدد البشرية والمعمورة. والدول تتسابق من كل الطرق لتحظى بشرف استضافة مباريات كأس العالم على أرضها، ويبلغ التنافس لتحقيق هذا الشرف العظيم بحساب المال مليارات الدولارات، تُصرف -أو يُتعهد بصرفها- على تهيئة وإعداد الملاعب والمدن التي ستجرى فيها مباريات كأس العالم في البلد المحظوظ. وبحساب السياسة يصل التنافس والسعي من أجل تحقيق هذا الشرف الوطني، أن يتحرك رؤساء الدول بأنفسهم ويقطعوا المسافات البعيدة ويتركوا وراءهم هموم الدولة اليومية ليساندوا ويدعموا فرقهم الوطنية. ومنافسات كأس العالم لكرة القدم هذا العام، التي انتهت بفوز إيطاليا بالكأس الذهبية، كانت مهرجاناً عالمياً بحق، ورغم أن ألمانيا (البلد المضيف) قد خرجت من الميدان، فإنها قد فازت، وباعتراف الجميع، بجدارة، في ميدان تنظيم هذه الدورة، التي صرف عليها الألمان بسخاء كثير، يساوي مكانة بلدهم الاقتصادية (ثالث دول العالم ثراءً). لكن الرياضة والتنافس الرياضي بكل ما يحملانه من معانٍ سامية جرى ذكرها، لم ولن يستطيعا أن يتغلبا على تلك النزعة البشرية المتأصلة في الكائن البشري، ألا وهي نزعة التعصب للوطن وللبلد الذي ينتمى إليه ذلك الكائن البشري. قد تستطيع أن تخفف من غلواء التعصب وحدته التي تبلغ عند البعض درجة العنف بكل صوره الكريهة، ولكنها لم ترتفع به ليكون في لحظة ما "إنسانياً" يعلو بإنسانيته فوق وطنيته القديمة أو الجديدة. ولعل أبلغ صورة شاهدها المرء هنا في مدينة تورنتو الكندية لتأكيد هذا المعنى، فهذه المدينة التي تفخر بأنها مصهر القوميات والإثنيات والثقافات والتي تطمح أن تقدم للبشرية نموذجاً جديداً، تحولت يوم انتصار إيطاليا على فرنسا إلى مدينة إيطالية، بل في تقديري إلى مدينة إيطالية تستطيع أن تزهو بفخرها واحتفالها بانتصار الفريق الإيطالي، على المدن الإيطالية الأخرى هنالك في حوض المتوسط. فالجالية الإيطالية -إن صح التعبير- كبيرة العدد وقوية النفوذ هنا، نافست "الوطن الأم" في الاحتفال والاحتفاء بانتصار الفريق الإيطالي وفوزه بكأس العالم. وفي تقديري أيضاً أنه لو كان قد تحقق النصر للفريق الفرنسي، لكانت قد تحولت مدينة "كويبك" إلى مدينة فرنسية ليلة الانتصار والفوز! وكل ذلك لا بأس به؛ فالإنسان بفطرته ونزعته البشرية، يجد نفسه منجذباً إلى جذوره القديمة مهما تباعد بينه وبينها الزمن والمسافات، لكن هذا الحنين إلى الجذور القديمة يجب ألا يتحول إلى تعصب بغيض ينحدر بالإنسان إلى إنكار الآخرين والشعور بالتعالي عليهم. وإحدى فضائل التنافس الرياضي العالمي -ومهامه الأساسية- أن يحقق ذلك. فالرياضة خلق والناس عندما يتحدثون عن الروح الرياضية يعنون السمو الأخلاقي.