لا تحتاج لأن تكون خبيراً في الاقتصاد أو السياسة لتعرف أن الاحتكار هو الأب الطبيعي للركود والظلم, إذ يكفي تماماً أن يكون لك بعض الخبرة بشؤون الحياة العادية, وأن تهتم قليلاً بقراءة ما يحدث حولك وتفسير ما يحدث لك أو لجيرانك في مختلف المواقف. فإن كنت تشتري شيئاً يحتكره بائع أو شخص واحد فسوف تضطر لدفع ما هو أكثر كثيراً من سعره العادل, بل قد تضطر لدفع أي سعر يطلبه البائع الوحيد إن كانت حاجتك لهذا الشيء أساسية وحيوية لشأن من شؤون الحياة أو البقاء بالسوق. وعندما يريد أحد أن يرفع سعر شيء ما فأول شيء يفعله هو أن يسيطر على المعروض من هذا الشيء ولو تطلب الأمر أن يغلق باب الاستيراد مثلاً وأن يستخدم شعارات "وطنية" صاخبة من أجل تمرير هذه السيطرة. ومن خبرتنا المباشرة وخاصة من تطورات الأعوام القليلة الأخيرة, نعرف أيضاً أن بعض التجار أو المستوردين أو المصنعين "يجففون" السوق أولاً لفترة ما حتى يشعر كل من يتعامل في هذا السوق بالحاجة الشديدة لها فيضطر لأن يدفع أكثر بكثير, بل وقد يضطر لتصفية مشروعاته أو بيع ما يملكه لصالح من يسيطر على السوق. ما يحدث في سوق الاقتصاد يصح أيضاً في السياسة. فالاحتكار هو أيضاً أب الركود والظلم السياسي. والاحتكار في السياسة هو السيطرة التامة على السلطة: أي ما نسميه الحكم المطلق, وعادة ما يقصد به أن يستمر إلى الأبد, سواء من جانب شخص أو حزب سياسي أو طبقة اجتماعية, ورفض مشاركة بقية المجتمع فيها أو التنافس عليها, سواء بأساليب الديمقراطية أو بغيرها من الأساليب. والاحتكار في الاقتصاد يقود إلى الاستبداد بالسوق, والاحتكار في السياسة يعني الاستبداد بالمجتمع. وينتهي استقلال كل الفاعلين في الاقتصاد عندما يتمكن الاحتكار من السوق. وتنتهي معاني وحقوق المواطنة عندما يتمكن منها الاستبداد أو الاحتكار السياسي. ولهذا يشكل التوازن شرطاً لا غنى عنه للانتقال الديمقراطي. ويستحيل أن يتحقق استقرار ديمقراطي حقيقي إذا استأثر حزب أو احتكرت نخبة القرار السياسي, حتى لو جرى ذلك بوسائل ديمقراطية. ولا يمكن القياس هنا على حالة حزب الوفد قبل ثورة 1952 في مصر أو تجربة جبهة التحرير في الجزائر قبل انتخابات 1991. فالشعبية الجارفة للوفد وقدرته على اجتياح الانتخابات العامة كانت شيئاً مؤقتاً بطبيعة المهمة والمشكلة الجوهرية التي واجهها المصريون جميعاً, وهي تصفية وإنهاء الاحتلال البريطاني لمصر, فقد كانت هذه هي فكرة "الوفد" ووظيفته, وهو ما أدى إلى تقليص مساحة التنافس السياسي, إذ لم تكن هناك فكرة أخرى مقبولة أو قابلة للحصول على الشرعية الشعبية غير فكرة الاستقلال التام, التي نادى بها الوفد في ذلك الوقت. لا يمكن القياس إذن على تجارب الماضي وبالتحديد تجربة النضال الوطني لإسناد نظرية تقول بأن مصر أو غيرها من الأقطار العربية تحتاج إلى حزب واحد كبير تدور في فلكه كوكبة من الأحزاب القزمية. فالأصل أن مصر تحتاج إلى أحزاب لأنها تحتاج أصلاً إلى ديمقراطية, والديمقراطية لا تقوم إلا باحترام حكم القانون, ومبدأ سيادة الأمة كما تظهر في انتخابات حرة نزيهة. فلا مناسبة إذن للحديث عما تحتاجه مصر في غياب الإرادة الشعبية الحرة. فقبل أن نفكر في أن يكون لدينا حزب واحد كبير أو أكثر يجب أن نقر بمبدأ حكم القانون, وتأكيد مبدأ حياد الإدارة الحكومية, وحتمية إقرار ضمانات جوهرية لنزاهة الانتخابات العامة باعتبارها الطريقة الوحيدة للتعرف على إرادة الشعب الذي هو مصدر السلطات. وقد نقبل عندئذ أن يكون الاحتكار السياسي نتيجة مقصودة لرأي الشعب واختياره الحر, إذا ما ظهرت هذه الإرادة في انتخابات عامة حرة نزيهة. أما والأمر غير كذلك, فإن القول بأن مصير مصر أن يحكمها على الدوام حزب واحد كبير, وزعيم أبدي لهذا الحزب يمارس سلطات مطلقة فهو غير مقبول منطقاً وعقلاً, وهو لا يتفق على أي حال مع المبادئ الديمقراطية, وهو كذلك ضار ضرراً شديداً بالمجتمع. والواقع أنه يستحيل تصور الانتقال الديمقراطي قبل تحقق شرط التوازن السياسي النسبي والمتحرك. وهذا هو ما انتهت إليه سلسلة من البحوث التاريخية الجديدة حول مصدر التحول الديمقراطي في أوروبا الغربية. فقد كشفت هذه البحوث أن الدعوات الدستورية والفكرية للديمقراطية كانت عاملاً مساعداً ومهماً, ولكنها لم تكن العامل الرئيسي. أما العامل الرئيسي فهو بروز تنافس سياسي جاد بين حزبين أو جماعتين سياسيتين. وعادة ما برز هذا العامل بتأثير انشقاق حزب رئيسي واحد إلى حزبين, كما حدث في بريطانيا ثم أميركا بصورة خاصة. وبعض المجتمعات تبقى عند مستوى التوازن بين حزبين, وبعضها الآخر ينتقل من هذا المستوى المتدني إلى مستوى أرقى بإنتاج بنية سياسية وحزبية متنوعة. ومن هنا, وبغض النظر عن القصد والنية أو حتى التصريحات والمبادرات والبرامج, يعزز صعود بعض أطراف المعارضة فرص التحول الديمقراطي في مصر والبلاد العربية, لأنه ينهي مرحلة طويلة من الاحتكار ويقترب بالمجتمعات السياسية العربية من وضع التوازن. ولا يبدو ذلك صحيحاً حتى الآن لأسباب مؤقتة بطبيعتها, منها تعذر قبول بيروقراطية الدولة وخاصة جهازها الأمني بإمكانية خسارة السلطة. وربما تقدم لنا تجربة السلطة الفلسطينية دليلاً قوياً على هذه الصعوبة والتي تتجاوز النوايا بل وحتى الأيديولوجيات والتجربة السياسية. إذ أن كثيرين من الكوادر البيروقراطية والأمنية يقاومون بضراوة حكومة "حماس" وقد تصل بهم كراهة الواقع الجديد الذي أسفرت عنه الانتخابات إلى حد إثارة حرب أهلية لإنهاء هذا الواقع بالقوة, وذلك بالرغم من أن هذه الكوادر مرت بمرحلة ثورية وأنها لم ترث السلطة بصورة بيروقراطية, فما بالنا بهذه الكوادر الأمنية والبيروقراطية التي تسيطر فعلياً على السلطة في بقية البلاد العربية بإرث واستحقاق بيروقراطي قديم نوعاً ما؟ ورغم ذلك, فإن الانتقال الديمقراطي يفرض نفسه بالضرورة مع التعلم والتعايش مع حقيقة التوازن والاختيار الشعبي الحر. ويبدو أن عنصر التعلم هو العامل الحرج, لأنه عادة ما يتمم تجربة الانتقال إلى الديمقراطية بعد معاناة كبيرة جداً, وبعد آلام لا حد لها, بسبب وهم استعادة الاحتكار السياسي أو الدفاع عنه بوسائل عنيفة. وغالباً ما ينتج هذا الوهم كوارث حقيقية, ويقود أصحابه إلى خسارة السلطة والسمعة معاً, بل وفي حالات معينة خسارة كل شيء بعد أن يكونوا قد تسببوا في محنة كبيرة لبلادهم. وبعد نهاية هذه المحن يتعلم من يأتوا بعدهم أن التوازن هو أبو العدالة والتطور السياسي والاجتماعي.