هدف "حماس" من عمليتها الجريئة التي انتهت بأسر الجندي الإسرائيلي بدأ يتحقق. أصبحت اللاعب السياسي الأهم على الساحة الفلسطينية. بروز "حماس" بهذا الشكل لم يفت على ملاحظة الإسرائيليين. صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية دعت في افتتاحيتها يوم الاثنين الماضي إلى تبني الحل الدبلوماسي كمخرج لأزمة الجندي الأسير. تعترف الصحيفة بأن قبول عملية تبادل أسرى كمخرج للأزمة يمثل نصراً كبيرا لـ"حماس"، لكنها ترى أن الحكومة الإسرائيلية تضخم هذه النتيجة بأكثر مما ينبغي. فـ"حماس" هي التي كسبت الانتخابات، وهي حالياً أهم قوة سياسية فلسطينية، وهي الجهة الوحيدة التي يمكن أن تحل الأزمة. في الصحيفة نفسها، لاحظ الكاتب الإسرائيلي، "داني روبنشتاين"، أن في الأزمة الحالية "هناك لاعبين اثنين فقط: حماس وإسرائيل. ليس هناك غيرهما. محمود عباس (أبومازن)، رئيس السلطة الفلسطينية، هو أبرز الأطراف التي لم يعد لها دور تقوم به في هذه الأزمة. لا يستطيع أبومازن التأثير على سير الأحداث، لا فيما يتعلق بالجندي الأسير، ولا فيما يتعلق بصواريخ القسام". في سياق ملاحظته هذه عن صعود قوة "حماس" مقابل هبوط أسهم "فتح" وأبومازن، لم يفت "روبنشتاين" الإشارة إلى أن طريقة أبومازن الحضارية (هكذا) في التعامل مع إسرائيل لم تؤدِّ إلى إطلاق أي أسير سياسي فلسطيني حقيقي. والنتيجة، كما يقول الكاتب، أن "حماس" ستبقى معنا لوقت طويل. وبدلاً من التفكير في طريقة للتخلص منها، يجب التفكير لبعض الوقت في كيفية التعاطي معها. "فتح" وأبومازن هما أهم حليف لمصر الآن. وإذا كان أبومازن لم يعد يؤثر على تطورات الأزمة الحالية، فإن هذا ينسحب على الدور المصري كذلك. وزن الدور المصري وتأثيره في الصراع الدائر مرتبط بدرجة كبيرة بوزن وفعالية حلفاء مصر على الأرض. وانسجاماً مع ذلك ليس مفاجئاً أن مصر فشلت حتى الآن في تحقيق أي تقدم في جهودها لإيجاد مخرج للأزمة. هذا لا يعني أن صعود "حماس" هو إضعاف للدور المصري، إنما يعني أنه كشف مدى الضعف الذي يعاني منه الدور المصري، وأنه دور يتآكل من الداخل. لاحظ ما قاله خالد مشعل، رئيس المكتب السياسي لـ"حماس"، في مؤتمره الصحفي الأحد الماضي في دمشق. رفض وصف ما تقوم به مصر حالياً بأنه وساطة، وقال إنه يفضل أن يعتبره جهداً عربياً ضمن جهود عربية أخرى. بعبارة أخرى، "حماس" تريد لمصر أن تتخلى عن دور الوساطة، كمدخل لاستعادة الدور المصري لحيويته. تجد مصر نفسها محشورة في دور وساطة بين "حماس" وإسرائيل، وهما طرفا الأزمة الوحيدان. تبدو مصر هنا وكأنها زجت بها الأحداث على غير رغبة منها للعب دور لا تملك إلا تمني النجاح فيه. هي لا تحلم بالتأثير في السياسة الإسرائيلية. ولا تستطيع إقناع "حماس" بالإفراج عن الجندي الإسرائيلي مقابل وعود إسرائيلية بإطلاق عدد من الأسرى. الضمانات المصرية ليست كافية، لأنه لا يعرف عن إسرائيل أنها التزمت بوعودها للفلسطينيين. ومصر لا تستطيع أن تفعل شيئاً إذا ما قررت إسرائيل أن تنكث بوعدها. لا تملك إلا الضغط على الفلسطينيين. وفي الوقت نفسه لا تملك ما تقدمه للفلسطينيين إلا "تجنبوا التصعيد الإسرائيلي وما يبشر به من دمار وخراب". الافتراض المصري هنا أن التصعيد الإسرائيلي ليس إلا رد فعل على الاستفزازات الفلسطينية، وأنه إذا توقفت هذه الاستفزازات، فسيتوقف التصعيد. وهذا افتراض لا أساس له، ويتناقض مع تاريخ الصراع، وخاصة مع السياسة الإسرائيلية. ورغم أن هدف مصر هو دائماً تفادي التصعيد، إلا أنها لم تنجح في تحقيق ذلك لا في الماضي، ولا في الأزمة الحالية. ولأن مصر لا تستطيع التأثير في السياسة الإسرائيلية، أصبح تركيزها على الطرف الفلسطيني لتحقيق الهدف نفسه. إسرائيل مستمرة في التصعيد، وقتلت منذ أسر الجندي قبل أكثر من أسبوعين أكثر من أربعين فلسطينياً، ومع ذلك لا تستطيع مصر استخدام هذا التصعيد كورقة ضغط على الإسرائيليين. على العكس تستخدمه كورقة ضغط مع الفلسطينيين. المفارقة أن التصعيد الإسرائيلي يوظف الدور المصري هنا كأداة سياسية إضافية وليس العكس. بعبارة أخرى، يكاد ينحصر الدور المصري في ضبط الطرف الفلسطيني كوسيلة لتفادي التصعيد، في الوقت الذي تستخدم فيه إسرائيل التصعيد العسكري لتقول للفلسطينيين إن ثمن عدم الانضباط سيكون باهظاً. وهو دائما كذلك. من يضبط الطرف الإسرائيلي؟ لا أحد. أميركا تمنح إسرائيل شيكاً أمنياً وسياسياً مفتوحاً. ومصر لا تملك شيكات من هذا النوع لتمنحها لأحد. لكن إذا كان الشيك الأميركي يوفر الغطاء الدولي للسياسة الإسرائيلية، فإن دور مصر حالياً، مع غياب دور عربي آخر ومختلف، يوفر الغطاء العربي للشيك الأميركي المفتوح، وللسياسة الإسرائيلية. هل دور مصر في الصراع هو دور وساطة وحسب؟ إذا كانت مصر لا تملك ورقة ضغط حيال الطرف الإسرائيلي، وأن نجاح دورها يعتمد بدلاً من ذلك على الضغط على الطرف الفلسطيني، فإن هذا يعني أن دور مصر ربما أقل من أن يوصف بدور وساطة. دور الوساطة يتطلب شيئاً من التوازن، والتفاوض مع كل الأطراف، وملكية الوسيط لأوراق ضغط على هذه الأطراف، بما يسمح على الأقل بمحاولة الوصول إلى حلول وسط. هذه العناصر غير متوفرة للدور المصري حالياً. لاشك في أن مصر تريد القيام بمثل هذا الدور، لكن تطورات الصراع لا تسمح لها بذلك. قد يبدو وكأن مصر لا تملك أوراق ضغط على الإسرائيليين. على العكس. لكن السياسة المصرية منذ اتفاقيات كامب ديفيد عام 1978 ارتهنت لدور إقليمي يفرض عليها تحييد تلك الأوراق. أخرجت هذه الاتفاقيات مصر كطرف في الصراع العربي- الإسرائيلي، ولم تخرجها كطرف في الأزمة المرتبطة بالصراع. عروبة مصر لا تسمح بذلك، ومصالحها الاستراتيجية في منطقة الشام، لا تسمح بذلك، وكون فلسطين بوابتها المباشرة الوحيدة إلى هذه المنطقة لا تسمح بذلك. وهنا مأزق مصر، بين خروجها كطرف في الصراع، وبقائها كطرف في الأزمة الناجمة عن الصراع. كان المطلوب من مصر نتيجة لاتفاقيات كامب ديفيد أن تلعب دور الوسيط بين العرب وإسرائيل. أرادت مصر أن تكون الاتفاقيات نموذجاً لمرحلة جديدة. تتفق إسرائيل مع مصر في هذا، لكن من زاوية أن العلامة الأولى لهذه المرحلة الجديدة هي إقرار العرب بالهزيمة، وأن الطرف المهزوم لا يملك إلا تقديم التنازلات. الطرف العربي الأضعف هو الفلسطينيون، وعليهم أن يقدم أكثر التنازلات وأخطرها. مقابل هذه الرؤية الإسرائيلية ليس هناك رؤية مصرية، أو عربية متفق عليها. هناك المبادرة العربية، لكن مصر تعطي أكثر من مؤشر على أنها ليست معنية كثيراً بهذه المبادرة. في نظر القاهرة، دور مصر أصبح في هذه المرحلة مرتبطاً بواشنطن، وبدورها كوسيط، أو ما يبدو كذلك. أي طرح عربي جماعي قد يهمش هذا الدور. وهذه مفارقة عربية، وعلامة أخرى على مدى ضعف الدور المصري. المفارقة الأخرى أن مصر ترفض القول بأنها تقوم بدور الوسيط. ما حصل للمنطقة منذ اتفاقيات كامب ديفيد، وفي ظلال الدور المصري الناتج عنها، يؤشر إلى شيء من طبيعة هذا الدور. أول نتائج إخراج مصر من الصراع كانت ضربة إسرائيل للمفاعل النووي العراقي 1981. ثم الغزو الإسرائيلي للبنان وإخراج منظمة التحرير إلى تونس 1982، وتوسع الاستيطان الإسرائيلي في الضفة وغزة بحجم لم يكن معروفاً من قبل. تستولي إسرائيل حالياً على ما لا يقل عن 78% من أرض فلسطين. جاءت بعد ذلك اتفاقية "أوسلو" 1993، ثم قيام السلطة الفلسطينية بقيادة "فتح". أيضاً في ظلال الدور المصري تم اعتقال الرئيس ياسر عرفات 2002 لأكثر من سنتين حتى توفي في معتقله في المقاطعة، في رام الله. لم يستطع الدور المصري أن ينقذ عرفات. كان عرفات حليف مصر الأول بين الفلسطينيين، وكان أهم وأبرز قائد عرفه الفلسطينيون منذ عام النكبة، وكان رئيس السلطة الفلسطينية، ورئيس منظمة التحرير الفلسطينية، التي اعترف العرب بها في قمتهم عام 1973 كممثل وحيد للشعب الفلسطيني. هذه وغيرها أحداث كبيرة غيرت المشهد السياسي في المنطقة. ماذا كان دور مصر في كل ذلك؟ محاولة استيعاب التغيرات، مع ادعاء إمكانية المحافظة على الوضع الإقليمي من دون تغيير. الغريب أن هذه الفكرة أهم عناصر الاستراتيجية المصرية حالياً. الدور المصري محكوم بثلاثة عوامل: كامب ديفيد، والعلاقات الأميركية- المصرية، والسياسة الإسرائيلية. خارج هذه الحدود يسقط الدور المصري الحالي.