تحتفي أوساط واسعة من العالم، بمرور مئة عام على وفاة المفكر والكاتب المسرحي النرويجي "هنريك إبسن". ومبعث هذا الاحتفاء أن الرجل سجَّل موقفاً كبيراً من معضلة المرأة في حياته، وترك تأثيراً أدبياً وفكرياً على هذا الصعيد، ما يزال فاعلاً. ولعلنا نذكر هنا أن ذلك التأثير لم يطَلْ الواقع النرويجي والأوروبي فحسب، بل امتد إلى الفكر العربي كذلك، وكان أبرز من تمثّل هذا التأثير المفكر المصري سلامة موسى في كتابه "هؤلاء علّموني"، الذي صدر في سلسلة "اقرأْ" المصرية. تأتي أهمية "هنريك إبسن" من أنه عاش من عام 1828 إلى عام 1906، أي في منتصف القرن التاسع عشر، الذي ربما كان مرحلة مهمة بامتياز على صعيد الكثير من القضايا الأوروبية، ومنها خصوصاً قضية المرأة. فحتى حينه، نُظر إلى هذه الأخيرة بوصفها طرفاً من طرفي ثنائية "العقل والقلب، والفكر والجسد"، بحيث تمثل هي الثاني منهما. بل اتخذت هذه الثنائية الصيغة التي طرحها الفيلسوف الألماني هيجل، وهي "العبد والسيد". فكان من شأن ذلك أن نُظر إلى المرأة من حيث هي تعبير عن "الانفعال" مقابل "الفعل" في كل مجالات الحياة الإنسانية. وقد قاد ذلك إلى اعتبار التاريخ العالمي إنما هو تاريخ الرجال، أساساً وعموماً، إضافة إلى أن من يكتب هذا التاريخ هم الرجال دون غيرهم. وقد يكون لهذا الاعتقاد جذرٌ فيما أعلنه الفيلسوف اليوناني أرسطو من أن العبد كما المرأة لا يندرجان في حقل "الإنسان"، لأنهما يفتقدان "الذاتية العقلية". جاء "هنريك إبسن" في ذلك الشرط التاريخي، ليسجل رقماً قياسياً في مواجهة ما اعتبره حيْفاً وعاراً في جبين المجتمع الجديد، البورجوازي الصناعي. لقد رأى ذينك الحيف والعار متجلّيين في طراز الحياة، الذي تعيش المرأة فيه بوصفها "رِجْلاً عرجاء"، فكتب مسرحية ستتحول في أزمنة تالية إلى وهج يُلهب عقول النساء والرجال وعواطفهم، مُحفّزاً إياها على العمل في سبيل أن تحقق المرأة إنسانيتها، وقد صدرت تحت عنوان "بيت اللعبة". أما الشخصية الرئيسة في هذه المسرحية فتتجسّد في "نورا". وهذه فتاة تعيش في بيت أبويها بكثير من المرح والمتعة وسعَة الحياة: إنها مدلَّلةُ أبويها، التي ليس من شأنها أن تفكر أكثر مما يحتمله "عالمها الأنثوي-الحريمي". فهي أنثى بكل امتلاء، لا يُسمح لها بأن تتجاوز حدّها الأنثوي، وتستمر "نورا" في حياتها، التي درجت عليها مع أبويها، حين تجد نفسها بين يدي رجل آخر جديد هو زوجها. ويرى "إبسن" أن الرجل يمتلك تجربته الكونية، أما المرأة فلا تخرج عن حقلها المنزلي. ولعل دراسات لاحقة متأخرة تعمق هذه الرؤية، إذ تضبط علاقة المرأة بالكون عبر جسدها، أي عبر أنثويتها الموزعة باتجاه الزوج والأطفال، أما الرجل فيدخل في عباب الكون دون وساطة. من هنا جاء القول إن هوية المرأة -على ذلك النحو- إنما هي هوية أنثوية، أما إنسانيتها -وهي الهوية الكونية الكلية- فمنتزعة منها. وهذا ما أكد عليه "إبسن" في درامته "بيت اللعبة". وإذا كان الأمر على هذا النحو بالنسبة إلى "نورا"، بطلة الدراما المذكورة، فقد أخذت تكتشفه في منزل الزوجية، وتكتشف معه أن الخروج منه وعليه يُملي عليها الدخول بعمق ورحابة في شغاف المجتمع عملاً وثقافة وتجربة، بكل ما ينتجه ذلك من تجارب مُفعمة بالأخطاء والنجاحات، وقد سارت "نورا" بهذا "الانقلاب" بعيداً، بحيث أفضى إلى قرارها "المصيري": الخروج من "قفص الزوجية" المغلق، إلى رحابة الكون برمّته. وقد أحدثت هذه النتيجة الحاسمة توتراً كبيراً في ضمير المجتمع الأوروبي بمنتصف القرن التاسع عشر. وقد قدمت التطورات الأوروبية الكبرى اللاحقة أدلة على أن المرأة يمكن أن تخرج من هُويتها الأنثوية الجسدية باتجاه آفاق جديدة مِن تقدمها في حقول الحياة كافة، إذا توافرت شروط ذلك عبر أنْسنَة المجتمع البشري ونشر العقلانية والتنوير والمساواة والحرية. إن ما قدمه "إبسن" في إنتاجه الفكري والأدبي المسرحي، يندرج -والحال كذلك- تحت عنوان كبير هو: من الأنثى إلى الإنسان، ومن "اللعبة" إلى "اللاعب"، ومن هيمنة الرجل الضعيف والآخر القوي على المرأة إلى المساواة بينهما، دون تغييب الفروق النسبية بينهما. إن هذه الملاحظات الأولية تأتي في سياق ذكرى "إبسن"، لتجعلنا نمرّ بالرموز العربية، التي مثّلت تمثُّلاً عميقاً ونقدياً لإنجاز "إبسن" وغيره من مفكري ومُصلحي العالم كله. وقد يكون من الأهمية والطرافة بمكان أن نذكّر بما حدث في الكويت مؤخراً، حين انتفض المارد الجديد، المرأة، ليعلن أنه جدير بالتحول من الأنثى إلى الإنسان.