شهدت الأسابيع الأخيرة عدة مظاهر لتأجيل العرب والأفارقة مطلب الديمقراطية الجماهيري، وكأنه تأكيد لهذا التوقيف الذي يضرب بجذوره في المنطقتين العربية والأفريقية لعدة عقود. فقد عاشت المنطقتان منطق التوريث غير الملكي في أكثر من دولة في غرب القارة الأفريقية وفي المشرق العربي خلال أعوام سابقة. وتتصاعد النغمة في قرار جماعي من قبل مؤتمر القمة الأفريقية بجامبيا أول يوليو 2006 يتم خلاله رفض مشروع ميثاق الديمقراطية الذي ينص على عدم شرعية مد الرؤساء لفترات حكمهم خروجاً على الدستور القائم في هذا البلد أو ذاك. والقمة الأفريقية تتفوق هنا على الموقف العربي نفسه الذي يلجأ لحيل أخرى تبدو أحياناً "دستورية"، ولذا نرى ضرورة الانتباه مبكراًَ لهذه القرارات الجماعية التي قد تصدر عن القمم أثناء معالجاتها لقضايا إنسانية عامة مثل تعديل الميثاق الأساسي (الجامعة العربية مثلاً) أو وضع مواثيق مساعدة مثل مواثيق حقوق الإنسان أو حقوق المرأة... الخ. ولنرَ على سبيل المثال كيف يتدهور الحس الديمقراطي إزاء مطلب الديمقراطية في وقت يزداد فيه الصراخ العالمي حول "الديمقراطية" وتفعيل الديمقراطية في بلاد ومنظمات تترسخ علاقتها بقيادة العولمة. وليكن النموذج الأفريقي الآن مثالنا، حيث تغتني ذاكرة المتابع العربي بالأمثلة العربية. وحين نأخذ زاوية "التردي" على المستوى الأفريقي، فإننا لا نشير إلى طبيعة كامنة، أو نفاق سياسي مستمر، لأن الحالة الأفريقية كثيراً ما كشفت عن أشكال التقدم الديمقراطي في أكثر من مناسبة مثل انسحاب الرؤساء من مناصبهم أو نجاح المؤتمرات ومن الحركات الشعبية في تغيير النظم أكثر من مرة، ولذا يمكننا أن تشير هنا إلى أن النماذج تتركز أكثر على الأصعدة الرسمية والادعاءات الحكومية بأكثر منها في مجال التطور المجتمعي بأفريقيا. وقد كانت أوائل التسعينيات مثالاً لتقدم الحركات الشعبية بمطلب الديمقراطية في تغييرات أساسية شهدتها أكثر من عشر دول أفريقية، وتوجها انتصار شعب جنوب أفريقيا على النظام العنصري نفسه واعتلاء "مانديلا" قمة السلطة ثم تنازله عنها في مشهد ديمقراطي لا يُنسى. في هذه الظروف صدر عن القمة الأفريقية ميثاق المشاركة الشعبية عام 1990 والذي أعدته تنظيمات شعبية وخبرات ديمقراطية احتشدت في تنزانيا مما أسفر عن "ميثاق أروشا للديمقراطية". لكن مياهاً كثيرة جرت منذ ذلك الحين لتجعل صراخ أجهزة العولمة عن الديمقراطية صراخاً أجوف، وتجعل خدمة المصالح العالمية هي معيار الاستقرار والاستمرار لهذا النظام أو ذاك، ورأينا في هذا الإطار قيادات شابة تثبت في أماكنها لعقود وأخرى تورث أو تلوح بالتوريث، وثالثة تلعب لعبة الانقلابات العسكرية لتعود إلى تثبيت أصحاب المصالح. في هذا الجو تتغير لعبة القمة بدورها فتتخذ من القرارات المتصلة ما يثبت أركان الحكم وليس ما يدفع بالعملية الديمقراطية المبتغاة، فمع قيام الاتحاد الأفريقي عام 2000 أبدى مظهرياً حرصه على تأكيد مظاهر الديمقراطية الجديدة مع حرصه في الوقت نفسه على تثبيت النظم القائمة. وفي قرار جريء (مادة 4) أكد دستور الاتحاد عدم الاعتراف بالتغييرات الدستورية عبر الانقلابات العسكرية، وعدم حضور قادة أي انقلاب لمؤتمرات القمة، وطبق ذلك على جزر القمر وساحل العاج وموريتانيا وغيرها، مشترطاً الرجوع للوضع الدستوري المدني بأقصى سرعة. وفي قرار آخر أتاح إمكانية التدخل لفض الصراعات الداخلية مما قد يعانيه الحكم أو فئة أو إقليم في البلاد، وفي ثالث أقر -في برنامج التنمية العام لأفريقيا المعروف باسم "نيباد"- شرط الدخول في آلية لمراقبة الانتخابات حتى يتمتع النظام في هذا القطر أو ذاك بنصيبه من خطط التنمية التي قد يمولها هذا المشروع. وهنا يلفت النظر أن عدد المصدقين على هذا الشرط حتى الآن لم يصل لثلث أعضاء الاتحاد الأفريقي رغم أهميته البالغة في تحقيق قدر من المشاركة في عملية التنمية. ثم جاء دور "الضغط العالمي" من أجل تأكيد الديمقراطية في برامج الحكومات والنظم الإقليمية الصديقة! وهنا أكد إعلان "لومي" الخاص بالمشاركة الديمقراطية، والصادر في يوليو 2000 عدم شرعية التغييرات غير الدستورية في البلاد الأفريقية. والتقطت جنوب أفريقيا الخيط وهي تدفع بنفوذها في الاتحاد الأفريقي وباحتوائها الخاص لبرنامج التنمية المسمى "نيباد" فدعت في إطاره إلى عقد عدة مؤتمرات للمجتمع المدني والخبراء حول "دعم الانتخابات والديمقراطية والحكم الجيد"، وأصدر البرنامج وثائقه المهمة في أبريل 2003 لتنتقل بها إلى القمة الأفريقية دافعة إياها لإصدار إعلان جديد عن الديمقراطية. ويساهم رئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي في هذه الموجة وهو الرجل الذي رئس جمهورية "مالي" لفترتين واحترام المدتين عابراً بسمعته الديمقراطية إلى الاتحاد الأفريقي، مما جعله يدعو مؤتمراً للخبراء وشركاء المجتمع المدني في أديس أبابا عام 2004، ويكمل باجتماع على مستوى أعلى في برازافيل في يونيو 2006 أي قبل القمة الأخيرة مباشرة، ويقرر الجميع عدة مبادئ وأفكار لميثاق جديد عن الديمقراطية، أخطرها عدم شرعية مد الرؤساء لفترات حكمهم خلافاً لنصوص الدساتير المقررة، التي تشترط دائماً في أولى صياغتها شرط المدتين فقط! وحين تحمل وزيرة خارجية جنوب أفريقيا مشروع الميثاق مع رئيس المفوضية إلى المجلس الوزاري في بانجول بجامبيا من أجل انتزاع موافقة المجلس الوزاري لعرضه على القمة أول يوليو 2006. لكن القمة لا تستريح للمشروع، وترفض النص فيه على عدم شرعية التمديد للرؤساء، هنا تنضم الكتيبة الأفريقية إلى الكتيبة العربية في رفض مشروعات الديمقراطية المطروحة من قبل أحزابها ومجالسها إلى جانب ضغط المراكز العالمية المعروفة أبعاده. والرؤساء الأفارقة بقرارات يوليو الأخيرة يعلنون عن أن مطلب الديمقراطية ليس مطلباً ملحاً.. وليتهم يقرنون ذلك مثلاً بطلب العدالة الاجتماعية، أو مطلب توزيع الثروة والسلطات المحلية أو مطلب التصدي للشروط المجحفة لمنظمة التجارة الدولية في مجال الصحة والزراعة والملكية الفكرية، وذلك من خلال قرارات جماعية للقمة، مثلما قرروا التصدي للميثاق الجديد، بل ورفض بعضهم الشروط الدولية حول الديمقراطية!