قدمت أسرة الشاب اللبناني عاصم حمود المتهم بالتخطيط لأعمال إرهابية في نيويورك صوراً له لوسائل الإعلام، بدا فيها شاباً سعيداً لاهياً، وسط أصدقاء وصديقات له يحملون زجاجات البيرة، يتمازحون ويتضاحكون، في هيئة أبعد ما تكون عن الصورة النمطية لمقاتلي "القاعدة"، للدلالة على أن ابنهم لا يمكن له أن يتورط في آخر المؤامرات الإرهابية المحبطة، التي أعلن عنها مكتب التحقيقات الفيدرالي في الولايات المتحدة الأسبوع الماضي، وجرى اعتقال حمود في بيروت على إثرها. قد يكون بريئاً، فهذه ليست أول مرة يتعجل فيها مكتب التحقيقات الفيدرالي، ويعلن عن مؤامرة يتبين لاحقاً أنها لم تكن حقيقية أو مبالغ فيها، ولنتوقع الإعلان عن المزيد من المؤامرات المحبطة خلال الأشهر القادمة، فأميركا مقبلة على انتخابات حاسمة، و"الجمهوريون" الذين ينتمي إليهم الرئيس بوش قلقون، والتوقعات رائجة بأنهم مقبلون على خسارة كبيرة، وقد ثبت أن إثارة المخاوف من الإرهاب وسط الناخبين الأميركيين أثناء مواسم الانتخابات مفيدة لـ"الجمهوريين" في السابق، ذلك أنها تدفعهم للتصويت لهم بحثاً عن الأمن، ولغض الطرف عن أخطائهم أيضاً، مثل خطأ غزو العراق والذي بات "خطيئة" تكبر، والغالب أن هناك من سيدفع ثمنها في انتخابات نوفمبر القادمة، ولكن لا يمنع ذلك من تجريب الوصفة القديمة، وها هما مؤامرتان تتواليان علينا حتى الآن، الأولى خطط لها "مسيحيون يدرسون الإنجيل"، قالت المباحث الفيدرالية إن ثمة علاقة بينهم وبين "القاعدة" ما أثار سخرية بعض المعلقين، والحق أن لهم أن يفزعوا إذا استطاعت "القاعدة" التي تكره وتكفر حتى غيرها من المسلمين أن تؤثر في منظمة مسيحية متطرفة. المؤامرة الأخرى هي المتعلقة بعاصم حمود الذي تقول والدته "إنه محب للهو والحياة". لقد جربت ذلك أسرة لبناني آخر تورط مع "القاعدة"، وهو زياد الجراح قائد الطائرة الرابعة في عملية 11 سبتمبر والذي فشل في مهمته فسقطت طائرته في أحراش بنسلفانيا، ولكنه نجح في قتل عشرات من الأبرياء قادهم حظهم العاثر إلى تلك الرحلة. فتحدثوا عن حبه للمرح والحياة، وعرضوا لوسائل الإعلام فيلماً له يرقص ويغني في عرس، وقالوا إن له صديقة تركية، ولكن لم يقتنع أحد فمشاركة زياد ثابتة ولقد افتخر زعيمه في الجريمة بما اقترفت يداهما. والسؤال ينبغي أن يكون، لماذا عندما قرر زياد الجراح العودة إلى الله والتدين اختار تنظيماً تكفيرياً متطرفاً؟ وسيتكرر السؤال نفسه فيما لو ثبت تورط عاصم حمود في التخطيط لعملية أنفاق نيويورك المُحبَطة، ولماذا تحول من حياة اللهو والصديقات إلى "القاعدة" والتكفير والقتل؟ لماذا لم يتحول الاثنان إلى مجرد متدينين محبين للناس والحياة، فيتزوج الأول صديقته التركية، والثاني واحدة من صديقاته العدة، ويستقران في بيت تخيم عليه المحبة والتعلق بالله عز وجل؟ أما إذا كان لتحولهما الطارئ بعد سياسي، وغضبة لما يتعرض له المسلمون من إذلال وانتهاكات، ورغبة في إقامة دولة الإسلام والخلافة، فأمامهم "الجماعة الإسلامية" كبرى الجماعات الإسلامية السُّنية في لبنان؟ هل فقدت الجماعة جاذبيتها للمهتدين الجدد؟ هل باتت هي وغيرها من تيارات الإسلام السياسي المعتدل عاجزة عن إقناع الشباب بقدرتها على تحقيق التغيير الذي ينشدونه؟ هل الخطأ فيهم أم في بعض الشباب المتدين "المتعجل" كما يقول شيوخ الحركات الإسلامية؟ ولنتذكر أنه كان أمام الشاب أيمن الظواهري وهو يتلمس طريقه نحو الحركة الإسلامية منذ أن كان يافعاً في الثانوية أن ينضم لـ"الإخوان المسلمين"، ولكنه نابذهم العداء مبكراً ورآهم مشروعاً فاشلاً وسجل ذلك لاحقاً في كتاب خصه بهذا الموضوع، وأسس حركة متشددة انتهت تكفيرية ومؤسسة لتنظيم "القاعدة". لماذا تصبح "القاعدة" أو التطرف اختيار الشاب المسلم الغاضب، المتحول من حياة الفسق والضياع إلى ما يعتقده هداية وإيماناً؟ يعتقد البعض خاطئاً أن عملية التحول هذه تحتاج تدرجاً وشهوراً، كثيرون يتهمون حركات "الإسلام السياسي" المعتدلة والعلنية بأنها المحاضن الأولى للمتطرفين، يمرون عليها ومن ثم ينتهون مفجرين وانتحاريين، كثيراً ما يُقال "إن الجماعات المتطرفة خرجت من عباءة الإخوان" هل هذا تحليل صحيح أم مجرد تصفية حسابات بين تيارات متنافسة؟ إن التحليل العلمي لسير رموز التطرف المعاصرين يكشف أنهم لم يمروا على "الإخوان"، ولننظر في تاريخ أيمن الظواهري، وأبومصعب الزرقاوي، وأبوحمزة المصري، وأبوقتادة الفلسطيني، ويوسف العييري، وعبدالعزيز المقرن، لنرى كم هم ناقمون عليهم، منتقصون من قدرهم، متهمون إياهم بالتخاذل، بل حتى يعمقون الخلاف فيلبسونه ثوباً عقائدياً فيتهمون "الإخوان" بالابتداع والانحراف العقدي. والوحيد الذي أعرف أنه كان من "الإخوان" ثم تحول عنهم للتطرف هو زعيم "القاعدة" أسامة بن لادن، ولست متأكداً من خالد الشيخ، مهندس عملية 11 سبتمبر الذي قد يكون مر على "إخوان الكويت"، فأخواه زاهد وعابد رحمهما الله كانا من ناشطي الجماعة في الكويت، ولم يعرف عنهما تطرف وغلو. ما الذي حصل حتى أصبح فكر منبوذ، كان يُسمى استنقاصاً "المكفراتية"، هو البديل الثوري السريع للشباب الإسلامي المهتدي الغاضب المتعجل؟ هل هناك تقصير من العلماء والمشايخ القريبين من الحركة الإسلامية والذين يجتمع اتحادهم الدولي في مؤتمرهم الثاني هذا الأسبوع في أسطنبول؟ فلعلهم لم يهتموا بنشر ثقافة واقية من التطرف مثلما فعل بعضهم في الثمانينيات، عندما أطل التطرف برأسه، وأخص بالذكر الشيخ الراحل محمد الغزالي وكتابه الشهير "السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث"، والشيخ يوسف القرضاوي أمين الاتحاد المجتمع في أسطنبول الذي حذر من التطرف الدخيل إلى صف الحركة في كتابه الشهير "الصحوة الإسلامية بين الجحود والتطرف". ولعل غضبتهم كانت يومها في وجه الانحراف الديني، وليِّ عنق النصوص لخدمة أهداف المتطرفين، بينما التطرف الحالي تجاوز تلك المرحلة بعدما أسس لها وانتقل لاستخدام الظروف السياسية الجائرة لكسب الأنصار وتجنيد حديثي التدين، وللأسف يجب أن نعترف أن الظروف السياسية الجائرة غمت الأعين وشوشت الفكر بعدما استسلم حتى العقلاء والحكماء للوثة الغضب فتداخلت المواقف. وأختتم بالقصة التالية، في عام 1991 كان العالم الإسلامي متأزماً بأحداث البوسنة والجزائر بالإضافة إلى الجرح الدائم في فلسطين، وصل خلالها شاب اسمه رمزي يوسف إلى نيويورك، من دون جنود وأتباع، ولكنْ مزوداً بفكر وبعض المال، وخلال مدة قصيرة نجح في تجنيد ثلة صغيرة من الشباب العربي المسلم إلى فكره المتطرف، وكانت النتيجة أول عملية إرهابية استهدفت مبنى التجارة العالمي. فشلت العملية في تحقيق هدفها بتفجير البرجين أو أحدهما، ولم يهتم أحد بحقيقة نجاح رمزي يوسف بتجنيد شباب "حديثي التدين" خلال فترة قصيرة، لم ينتبهْ أحد إلى أن ثمة خطأ ما في التركيبة الذهنية للشباب المسلم جعلته غير محصن، فكرت جماعة رمزي يوسف بعدما كبرت وأصبحت "القاعدة"، وضربت ضربتها في 11 سبتمبر وبقية القصة وتداعياتها معروفة. لماذا يجذب فكر "القاعدة" رغم جنوحه للتكفير والخروج على إجماع المسلمين بعضاً من حديثي التدين؟ سؤال كبير يستحق أن يطرحه أحد على العلماء المجتمعين في أسطنبول هذا الأسبوع، كأني أسمع الإجابة، إنها أميركا بصلفها وعتوها التي أغضبت هؤلاء الشباب، حسناً وماذا بعد؟ هل يعني ذلك أننا نوافقهم على ذلك؟ هل انتهت المشكلة وحلت الأزمة بتقرير مسؤولية أميركا والغرب على تطرف أبنائنا؟ لعل انفجاراً لا قدر الله على بوابة الفندق الذي يجتمعون فيه ينبههم إلى أن ثمة مشكلة حادة أصابت العقل المسلم فهل أنتم منتبهون يا أصحاب الفضيلة؟