كتبت هذه السطور قبل انتهاء أعمال مؤتمر وزراء خارجية الدول المجاورة للعراق، والذي افتتح في طهران يوم السبت الماضي، لكن هوشيار زيباري وزير الخارجية العراقي لفت النظر يوم افتتاح المؤتمر بتصريح حذر فيه من أن بلاده "لن تسمح بعد الآن بأن يعقد أي اجتماع في شأن العراق من دون الحصول على رأي بغداد في موعده وزمانه ومضمونه". ولاشك أن انعقاد مؤتمر دولي بشأن الأوضاع الداخلية في بلد ما إشارة إلى أن هذا البلد يمر بوضع استثنائي، ولاريب في حق هوشيار زيباري في أن يصرِّح بما يشاء بخصوص رأيه في المؤتمر، غير أنه يبقى من حق الآخرين في الوقت نفسه أن يتأملوا تصريحاته بل وأن يضعوها تحت مجهر سياسي في محاولة للكشف عن دلالاتها. والأصل في القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة أنه يحظر التدخل في الشؤون الداخلية للدول، لكن المشكلة أن هذا كان يحدث في الواقع عادة في ظل ظروف معينة، والمشكلة الأكبر أن رياح العولمة بدا وكأنها عصفت ضمن ما عصفت بمبدأ السيادة وما أسس عليه من تحريم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، وتفاقم هذا الوضع بوجود الإدارة الأميركية الحالية التي ملأت الدنيا جوراً وظلماً بضرباتها في كل اتجاه بزعم تخليص العالم من الإرهاب الأمر الذي انطوى على ذروة التدخل في الشؤون الداخلية للدول، سواءً بانتقاد الأوضاع الداخلية والدعوة إلى تغييرها، أو بالدعم الفعلي لمن يسعون إلى ذلك وصولاً إلى الاحتلال العسكري المباشر. ولعل "العراق الجديد" -الذي تلهث أنفاسنا في كل لحظة لمتابعة تجلياته، والذي تدين له بوجودها حكومة العراق الحالية التي يشغل السيد هوشيار زيباري فيها منصباً مرموقاً هو منصب وزير الخارجية- لعله أقوى دليل على عالم اليوم الذي بات يتسم بأقصى درجات التدخل في الشؤون الداخلية، فلاشك أن السيد هوشيار زيباري يذكر جيداً أن قوى "العراق الجديد" هي التي دعت إلى التدخل الأميركي الذي أسفر عن احتلال سافر ما زال الشعب العراقي يدفع ثمنه من أرواح أبنائه ودمائهم حتى الآن. صحيح أن المخطط الأميركي لاحتلال العراق كان مُعداً سلفاً بغض النظر عن مواقف قوى "العراق الجديد"، لكن الأمر الذي لاشك فيه أنه –أي ذلك المخطط- كان بحاجة إلى ذريعة يرتدي بها ثوب الشرعية الذي رفضت الأسرة الدولية على الرغم من تناقضاتها أن تمنحه إياه، والأمر الذي لاشك فيه أيضاً أن قوى "العراق الجديد" قد استماتت من أجل أن يصبح التدخل الأميركي حقيقة واقعة بدعوى أن إسقاط نظام مفرط في ديكتاتوريته كنظام صدام حسين مستحيل دون تدخل خارجي، وهي دعوى زائفة على الأقل لأن الشعب الإيراني أسقط نظاماً أسوأ منه بثورة شعبية خالصة. وبعد أن أدى الاحتلال الأميركي المهمة التي حفزته عليها قوى "العراق الجديد" فأسقط نظام صدام حسين ثم أتبع ذلك بسلسلة من القرارات الحمقاء النابعة من غياب شبه مطلق لرؤية سليمة للموقف وتقدير صحيح له ساءت الأمور على النحو الذي نشاهده الآن ليكون أحد تجليات "العراق الجديد" هو مطالبة رئيس الائتلاف السياسي الحاكم الآن في العراق للإدارة الأميركية بالتفاوض مع القيادة الإيرانية بشأن مستقبل العراق. أي أن دعوة التدخل جاءت أولاً لإسقاط النظام باحتلال أميركي ثم جاءت ثانياً لتصحيح المسار بعد الاحتلال، فما الجديد في مسألة التدخل إذن؟ من المؤكد أيضاً أن السيد هوشيار زيباري -على الأقل بحكم انتمائه للمكون الكردي من الشعب العراقي- يعرف جيداً الوضع الممتاز الذي يتمتع به قومه في إقليمهم، والذي يماثل من الناحية الفعلية وضع الدولة لا ينقصه في ذلك إلا إعلان الاستقلال واعتراف الآخرين به ومقعد في الأمم المتحدة، فلديهم حكومتهم وقواتهم المسلحة وعلمهم الذي يرفعونه من دون العلم العراقي، ناهيك عن اتفاقيات نفطية يعقدونها مباشرة بعيداً عن الحكومة العراقية ومنسق لحكومتهم لدى الأمم المتحدة، وحضور متزايد في البعثات الدبلوماسية العراقية في الخارج، وتأشيرات دخول "لعرب العراق" قيل إن الحكومة الكردية تشترط الحصول عليها كي تسمح لهم بدخول إقليمها! وبالتأكيد فإن السيد زيباري يعلم جيداً أن هذا الوضع يعود أساساً إلى التدخل الأميركي- البريطاني في أعقاب إخراج القوات العراقية من دولة الكويت في 1991 بعد مغامرة الغزو الفاشلة في 1990، وهو التدخل الذي فرضت الولايات المتحدة وبريطانيا بموجبه ودون أدنى سند من القانون الدولي أو قرارات الأمم المتحدة حظراً على تحليق الطيران العراقي فوق الإقليم الكردي ومن ثم تقييداً لقدرة الحكومة العراقية المركزية على التدخل في الإقليم الكردي الأمر الذي وفر لأكراد العراق بفضل التدخل الخارجي فرصة ذهبية لتأسيس بنية تحتية حقيقية لكيان يمكن أن يتحول إلى دولة في أي وقت لو سمحت الظروف الإقليمية والعالمية بذلك. بعبارة أخرى فإننا لو أردنا اختصار ما يجري في العراق في كلمة واحدة لصعب علينا أن نجد كلمة أفضل من "التدخل" كمفتاح لفهم الأوضاع الراهنة فيه، فما الذي يغضب السيد هوشيار زيباري تحديداً في اهتمام دول الجوار بالشأن العراقي أو حتى تدخلها فيه؟ بل إن اهتمام دول الجوار بالذات بهذا الشأن قد يكون مبرراً على الأقل لأن تداعيات الوضع العراقي الراهن تؤثر عليها بالفعل على نحو خطير، وهي مرشحة للتفاقم مع مرور الوقت طالما بقيت الأمور على ما هي عليه. هل يغضب السيد زيباري مثلاً أن جامعة الدول العربية تشارك في الاجتماع ممثلة بأمينها العام؟ أم يغضبه أن الرئيس الإيراني طالب في كلمته الافتتاحية للمؤتمر بجدول زمني لانسحاب القوات الأجنبية التي لا يرى السيد زيباري في وجودها تدخلاً في الشأن العراقي؟ أم يغضبه أن دول الجوار على اختلاف مصالحها وسياساتها لا تستطيع أن "تبصم" على كل ما يجري في العراق؟ وقد جرب بعضها على الأقل أن يفعل ذلك في السابق ليكتشف سريعاً أن الوضع الراهن في العراق ما زال بعيداً للغاية عن الحالة التي تغري أحداً بأن يلقي بثقله في كفة تأييده. على أية حال فإن هناك وسيلة متاحة للسيد زيباري تبدو أفضل كثيراً من إطلاق التحذيرات أو حتى التهديدات لدول الجوار أو لغيرها، وهي أن يسعى بإخلاص مع زملائه في منظومة الحكم العراقية الحالية إلى بلورة برنامج وطني عراقي حقيقي يلتف حوله السواد الأعظم من الشعب العراقي على النحو الذي يقيم سداً حقيقياً ضد أي تدخل في شؤون العراق الداخلية من دول جواره أو من غيرها، وليأذن لنا السيد زيباري بأن نُسر إليه بأن البند الأول في مثل هذا البرنامج لابد وأن يتأسس على ضرورة الاستجابة لرغبته العارمة في منع التدخل في الشأن العراقي، وسوف يكون أول مظاهر هذه الاستجابة لاريب هو وضع نهاية للاحتلال الأميركي للعراق، وليثق ساعتها أن عقد دول الجوار وغيرها من الدول التي "تتطفل" الآن على الشأن العراقي سوف ينفرط دونما حاجة إلى تحذير أو تهديد.