طرحنا في المقالات السابقة، في إطار "التعريف بالقرآن"، مسألة الاسم الذي كان يطلق على الوحي المحمدي قبل أن يسمى بـ"القرآن". وأمام غياب أي مرجع في هذا الموضوع اتخذنا القرآن نفسه مرجعاً لنا في هذه المسألة. وهكذا نبهنا إلى أننا سنتتبع سور القرآن حسب ترتيب النزول لنرى متى وكيف استعمل القرآن هذا الاسم علماً عليه. لقد لاحظنا أن أول اسم سمي به القرآن -في القرآن- هو "الذكر"، وذلك في سورة "التكوير" ورتبتها السابعة في لائحة ترتيب نزول سور القرآن؛ واستمر الأمر على ذلك إلى سورة "النجم" التي أطلق فيها على القرآن اسم "الحديث" إضافة إلى الذكر، ورتبة هذه السورة 23، والغالب أنها نزلت في السنة الخامسة للنبوة، أما لفظ "القرآن" فقد رأينا أنه لم يرد كاسم عَلَم على القرآن إلا في سورة "القيامة" ورتبتها 31، والغالب أنها نزلت في السنة السادسة للنبوة. بعد ذلك تأتي سورة "الأعراف" ورتبتها 39 في لائحة ترتيب النزول لتضيف اسماً جديداً للقرآن هو "الكتاب". وإذا صح أنها نزلت في السنة التاسعة للنبوة، كما تقول بعض الروايات، فإنها ستكون قد نزلت خلال الحصار الذي ضربته قريش على النبي وأهله في شِعب أبي طالب بالجبل، والذي دام نحواً من سنتين. وعليه فإن العناصر الجديدة التي أتت بها هذه السورة، والتي سنذكر بعضها، ستكون لها علاقة مع ظروف الحصار. سورة الأعراف من السور الطوال، بل هي أطول سورة نزلت بمكة، وهي بمفردها تعدل ضعفي ما نزل قبلها (حسب عدد الكلمات) منذ ابتداء الوحي، كما تعدل كتاباً من كتب أهل الكتاب أو أكثر. وهي تبدأ بقوله تعالى: "المص، كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ" (الأعراف 1-2). اختلف المفسرون في المقصود بـ"الكتاب" هنا. ونحن نرجح رأي الزمخشري الذي يرى أن المراد بـ"الكتاب" هنا هو هذه "السورة" (سورة المص: الأعراف)، والمعنى: "سورة المص هي كتاب أنزل إليك". نحن نرجح هذا الرأي خصوصاً وهو أكثر انسجاماً مع بقية الآية، أعني قوله تعالى: "فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ (من هذا الكتاب)، لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ". والحرج هو الشعور بالضيق، والمعنى: فلا ينبغي أن تشعر بالحرج والضيق وأنت تنذر بهذه السورة/ الكتاب وتقدمها كتذكرة للجميع. والسؤل الذي يطرح نفسه هنا هو التالي: لماذا يخاطب الله نبيه في صدر سورة الأعراف، بالذات، بقوله: "فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ"؟ إن الجواب عن هذا السؤال لا يستقيم إذا نحن جعلنا معنى "الكتاب" في صدر السورة هو "القرآن" كما يذهب إلى ذلك الطبري وغيره. ذلك لأن النبي، ما فتئ ينذر بالقرآن ويذكر به، من دون حرج ولا ضيق ولاشك، منذ أن كلف بتبليغ الرسالة حينما خاطبه تعالى بقوله "قم فأنذر"، وذلك في سورة المدثر، وهي السورة الثانية حسب ترتيب النزول. فما الذي يستوجب الآن (في سورة الأعراف ورتبتها 39، والتي ربما نزلت حوالي السنة التاسعة للنبوة)، أقول: ما الذي استوجب الآن تنبيه النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن عليه أن لا يشعر بالحرج وهو ينذر بهذه السورة؟ لابد أن يكون السبب هو شيء ما، جديد، جاءت به هذه السورة! فما هو هذا الجديد يا ترى؟! إننا نعتقد أن سورة الأعراف قد جاءت فعلا بأمر جديد، يطرح مسألة إعادة ترتيب العلاقة، مع خصوم الدعوة المحمدية من جهة، والشروع في تحديد العلاقة مع أهل الكتاب من جهة أخرى. ذلك أن وصف هذه السورة بـ"الكتاب": ("كتاب أنزل إليك") -وهو وصف سيطلق على القرآن ككل في نفس السورة كما سنرى- يطرح، على مستوى العلاقة مع "قريش" تبرير الارتفاع بهم من مستوى "أمة أمية" لا كتاب لها، إلى أمة لها كتاب. كما يطرح على مستوى العلاقة مع "أهل الكتاب" توضيح نوع انتماء النبي محمد صلى الله عليه وسلم كصاحب كتاب، وهو من أمة أمية، إلى "أهل الكتاب" الذين هم اليهود والنصارى تحديداً. واضح إذن أن هذا الانتقال بالوحي المحمدي من الذكر والحديث والقرآن إلى الكتاب مدعاة للحرج للنبي، إزاء قريش، وإزاء اليهود والنصارى. فكيف ستعمل هذه السورة على إقناع خصوم الدعوة المحمدية من قريش بهذه الدعوى، أعني كون قرآن محمد صلى الله عليه وسلم هو كتاب منزل من عند الله؟ وكيف يمكن إقناع اليهود والنصارى، بهذا الأمر، وهم الذين احتكروا منذ القدم الاختصاص بـ"الكتاب" حتى سُمُّوا بـ"أهل الكتاب"؟ - أما بالنسبة لإعادة ترتيب العلاقة مع قريش فإن السورة تدعوهم إلى اتباع ما أنزل إليهم من ربهم، وهو ما كلف محمد عليه الصلاة والسلام بتبليغهم إياه، وتوصيهم بعدم اتخاذ "أولياء" من دونه، فتخاطبهم: "اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ" (الأعراف 3). والأولياء الذين تنهى الآية هنا عن اتباعهم ليسوا الأصنام، فهذه لا علاقة لها بالموضوع، موضوع "الكتاب"، فهي ليست لا من "الأميين" ولا من "أهل الكتاب"! وإذن فلابد أن يكون المقصود هم "أهل الكتاب"، وبالتحديد اليهود الذين وإن كانوا لا يسكنون مكة، (بل مسكنهم يثرب: المدينة)، فقد كانت لقريش علاقة معهم تستشيرهم في أمر محمد عليه الصلاة والسلام، وتسألهم هل هو نبي حقاً، كما حدث عندما طلبت منهم أسئلة يحرجون بها النبي فردوا عليهم بأن يسألوه عن أهل الكهف، وعن ذي القرنين وعن الروح، كما سيأتي بيان ذلك في حينه. تحذر سورة الأعراف أهل مكة من الإعراض عن رسالة رسولهم وإلا فيصيبهم ما أصاب من قبل "أهل القرى" الذين اتخذوا من رسلهم مواقف مماثلة، فلما أنزل الله تعالى العقاب عليهم اعترفوا بأنهم كانوا ظالمين. وهكذا تخاطب السورة قريشا: "وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا (ليلا) أَوْ هُمْ قَائِلُونَ (أثناء القيلولة)، فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ" (الأعراف 4/5). ولكي تقنع السورة قريشاً بذلك تدعوهم إلى الاستماع إلى تفاصيل ما جرى لأهل تلك القرى، يقصها كل من "المرسلين" و"الذين أرسل إليهم"، ثم ليحكموا بعد ذلك بميزان العدل: يقول تعالى: "فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ، فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ (على قريش) بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ، وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ. فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ، وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ" (الأعراف 6/9). بعد ذلك تذكر السورة قصة إبليس مع آدم وحواء وخروجهما من الجنة، بسبب إغراء الشيطان لهما بالأكل من شجرة معينة، مخالفين بذلك أمر الله. وسيكون ذلك مناسبة لحث بني آدم على تجنب إغراءات الشيطان وتذكيرهم بـما ينتظر الـمتقين من نعيم وأولياء الشيطان من عذاب. وبعد أن تبين السورة ما حرم الله على الناس في الدنيا بعد آدم: "قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ِوَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ" (33)، تدين الذين يحرمون ما لم يحرم الله ويكذبون بآياته. وهنا نلتقي مع لفظ "الكتاب" ولكن بـمعنى آخر. يقول تعالى: "فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنْ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا (الملائكة) يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ" (37). فـ"الكتاب" هنا بمعنى: "المكتوب المقدَّر". وبعد أن ترسم السورة مشهداً من مشاهد "النصيب من الكتاب" في الدار الآخرة، واصفة نعيم أهل الجنة وعذاب أهل النار، مستعيدة ما يجري بين الفريقين من حوار، تنتقل إلى مخاطبة قريش مستعملة هذه المرة لفظ "الكتاب" كاسم علم على القرآن. قال تعالى: "وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ (القرآن) فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ، هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ. هَلْ يَنظُرُونَ" (ينتظرون، أي كفار قريش) إِلا تَأْوِيلَهُ (أي ما سيؤول إليه أمرهم من العذاب الذي حذرهم منه)؟ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ (يوم القيامة) يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ (أعرضوا عنه في الدنيا) قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ! فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا، أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ؟ قَدْ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ"! (الأعراف 52/53). غير أن هذه التحذيرات والبيانات لم يُعِرْها المكذبون من قريش ما تستحقه من اهتمام، مما استدعى الإتيان بطرق أخرى في البيان والإقناع.