بينما يبدو العالم بأسره وكأنه يعتقد أن شوارع الصين مرصوفة بالذهب أو الفضة على الأقل, وأن جودة منتجاتها في تصاعد مستمر, يلاحظ أن الصين تصدّر للعالم منتجاً واحداً يلفه كثير من الشك والغموض. وربما يكون هذا المنتج باهظ التكلفة للخزانة الصينية, إن لم يكن يلحق ضرراً بالغاً بالاقتصاد العالمي بمجمله. وليس المقصود بهذا المنتج السيارات ولا أجهزة الكمبيوتر ولا أياً من مكوناتها. وليست له علاقة بالكثافة السكانية كما قد يخيل للبعض. إنما المقصود بالمنتج هذا, هو المعلومات لاسيما المالية والاقتصادية منها. وعلى سبيل المثال فقد أعلنت الصين في وقت متأخر من العام الماضي 2005, عما أثار دهشة العالم كله, بقولها إن خطأ ما لحق بأرقام إجمالي ناتجها المحلي لعام 2004, وإنه من الواجب تصحيحه بإضافة ما يعادل 280 مليار دولار, علماً بأن هذه الإضافة وحدها, تفوق إجمالي الناتج القومي لمعظم دول العالم! ومن فرط ضخامة الرقم المذكور, فقد انهمك كثير من الخبراء الماليين والاقتصاديين الغربيين بحك رؤوسهم طويلاً, بينما علق بالخاطر ثمة سؤال: كيف للإحصائيين الصينيين أن يخطئوا خطأ بكل هذا الحجم؟ ومما أثار الشكوك والاهتمام, أن هذا التصحيح جاء في أعقاب إعلان آخر لا يقل إثارة في العام نفسه 2005, مفاده صعود الفائض التجاري الصيني إلى ثلاثة أمثاله فجأة. وقد أدت هذه المعلومة بمجلة "بيزينس ويك" إلى نشر مقال وصف الأرقام إياها بـ"الزيف" ونعت الفائض التجاري الصيني بأنه مجرد وهم وأضغاث أحلام. ومن جانبه ذكرنا الاقتصادي "توماس راوسكي" من جامعة بطرسبرج بأن الصين كانت يوماً ما "صحراء إحصائية". كما لاحظ الاقتصادي ذاته أن كلاً من اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان والصين نفسها, شهدت ارتفاعاً ملحوظاً في معدلات استهلاكها للوقود, وارتفاعاً في الأسعار وفي معدلات التوظيف خلال فترة الأربع سنوات الماضية من التوسع والنمو الاقتصادي السريع. وبالمقارنة مع هذه الحقيقة لاحظ "راوسكي" أن الإحصاءات الصينية للأعوام 1997-2001 زعمت أن ناتجها الفعلي عن السنوات المشار إليها قد ارتفع بمعدل الثلث, بينما انخفضت معدلات أسعارها واستهلاكها للطاقة وكذلك معدلات التوظيف الرسمي. فكيف لهذا أن يحدث أصلاً؟ وبفعل اتباعها استراتيجية اقتصادية ثنائية الاتجاه, تمكنها من إنتاج التكنولوجيا المنخفضة, ودفع أجور ورواتب ملايين العمال الذين يتدفقون على مختلف مدنها, في ذات الوقت الذي تواصل فيه سباقها وتطلعها لأن تغدو في مقدمة صف دول التكنولوجيا المتقدمة, فقد أصبح لزاماً عليها مراقبة وفهم آليات عمل ثلاثة اقتصادات تعمل متزامنة مع بعضها بعضاً. أولها الاقتصاد الفِلاحي العملاق, وثانيها اقتصاد التكنولوجيا المنخفضة والعمالة الرخيصة, بينما يتمثل ثالثها في القطاع المعرفي. والملاحظ أن كل واحد من هذه الأنواع الثلاثة يعمل لحاله في إطار فرضيات اقتصادية مختلفة. والأسوأ من هذا أنه يتعين على قسم من الاقتصاد الصيني– قسم منه على الأقل- أن يعمل وفقاً لشروط وضوابط العهد الشيوعي, بينما تعمل الأقسام الأخرى وفقاً لقواعد وضوابط نظام شبه السوق. والسؤال الذي لابد من إثارته هنا: هل يدرك القادة الصينيون واقتصاديوهم التعقيدات المترتبة عن هذا الوضع؟ وهل يعي الأمر نفسه الإحصائيون الصينيون؟ أثيرُ هذه الأسئلة وفي البال أن بانتظار الصين تحديات إحصائية مستقبلية كبيرة, حتى وإن لم تكن هناك أية محفزات تدعوهم لـ"طبخ قوائمهم الإحصائية"! وسواء سلطنا الاهتمام على الإحصاءات الاقتصادية أم السياسية أم الاستخباراتية والعسكرية, فما أكثر مصادر الخطأ المعلوماتي. وفي وسع الأخطاء أن تقع بكل سهولة سواء خلال مرحلة جمع المعلومات نفسها, أم أثناء إجراء العمليات الإحصائية الحسابية. وبالقدر ذاته ربما ينشأ الخطأ عن تحريف أو تزييف متعمد للمعلومات والبيانات, سواء نتج ذلك عن أسباب سياسية أم من أجل تحقيق مكاسب ومآرب مالية, على نحو ما صحب فضائح شركة "إنرون" الأميركية الشهيرة. وقد ينشأ التضليل المعلوماتي في بعض الأحيان عن الاعتماد على المعلومات القديمة البالية التي عفا عليها الزمن. وهذه مشكلة كثيراً ما يشيع ويتكرر حدوثها مع تسارع وتائر التغيير بصفة خاصة. بيد أن هناك مصدراً آخر للتضليل المعلوماتي أشد خطراً من كل هذه الأنواع جميعاً. ففيما لو تم تجنب كافة مصادر الخطأ المعلوماتي الواردة أعلاه, ربما يبقى ويستمر المصدر الأهم المتمثل في العجز عن إثارة الأسئلة المعلوماتية الصحيحة ابتداءً. وهذا ما ينقلنا من دائرة المعلومات الصينية المثيرة للريبة والشك, إلى نظيرتها الأميركية. فهنا أيضاً يواجه القادة والاقتصاديون الأميركيون معضلة تتلخص في خطأ الأرقام الإحصائية التي يعتمدون عليها. وفي كلتا الدولتين –الولايات المتحدة والصين- يتسم التغيير بالتسارع المطرد, مما يزيد من خطر الاعتماد على المعلومات البالية القديمة. غير أن الخطر الأكبر من ذلك كله هو الاعتماد على أسئلة بالية تقوم بدورها على تعريفات اقتصادية عفا عليها الزمن والتاريخ. والملاحظ هنا بصفة خاصة, أن الاقتصاد الأميركي يحث الخطى الآن من أجل شق طريقه إلى المستقبل. لكنه مع ذلك لا يزال يعتمد إحصائياً على معلومات مالية اقتصادية تعود إلى عصر الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر. يجدر بالذكر أن كتابنا الجديد الذي يحمل اسم "الثروة الثورية" ذهب إلى القول إن الجزء الغالب من الاقتصاد التقليدي العالمي –وليس الأميركي وحده- يعتمد على معلومات وفرضيات بالية تعود إلى عهد الثورة الصناعية. وفي الوقت الذي تلعب فيه الولايات المتحدة دور رأس الرمح في خلق الثروة القائمة على المعرفة, يلاحظ أن اقتصادييها يكابدون في تصديهم وتعاطيهم مع المشكلات والمصاعب الجديدة التي تخلقها سرعة التغيير نفسها. والمعضلة أن المعرفة إنما تقوم اليوم أكثر من ذي قبل, على مصادر معلوماتية يصعب قياسها أو الإمساك بها مادياً. وعلى سبيل المثال, فإنه يسهل جداً إحصاء الرغيف المحمَّص المار بخط الإنتاج. ولكن كيف لنا أن نقيس فكرة جديدة مثلاً, وإلى أي مدى تتحدد قيمتها؟ وإذا ما تخيلنا فلاحة صينية تزرع الأرز في حقلها المطمور بالمياه, فإن ذلك يعني أنه لا سبيل لفلاحة أو فلاح صيني آخر أن يقوم بالنشاط ذاته في الحقل نفسه في تلك اللحظة. وتنطبق الحقيقة ذاتها على خط التجميع في شركة أو مصنع ما. لكن على خلاف هذا, فإن في وسعنا جميعاً استخدام علم الحساب أو اللوغاريثمات أو المعلومة الفيزيائية في وقت واحد, دون أن يؤثر عليها ذلك أو ينتقص منها شيئاً. وفوق ذلك تتسم المعرفة بأنها أسرع وأكثر انتقالاً من أي منتج آخر. ومن هنا يسهل نشرها وتوزيعها على نطاق العالم كله خلال ثوان معدودات. ليس ذلك فحسب, بل يمكن ضغط المعلومة في شكل رموز ومختصرات ومجردات. ويمكن للمعرفة أن تكون مضمرة أو صريحة, معبراً عنها أو غير ذلك, متبادلة أو غير متبادلة. فهل تحسن أميركا والصين وبقية دول العالم استخدامها؟ ألفن توفلر مفكر أميركي متخصص في المستقبليات ينشر بترتيب خاص مع "تريبيون ميديا سيرفيس"