(طالبان: حركة جهادية سلفية قامت على إثر الخلافات بين أجنحة المجاهدين فأقصتهم عن الحكم ووحدت أفغانستان وحكمت حكماً إسلامياً وقضت على كثير من المنكرات، تآلبت عليها القوى المعادية للإسلام وأزاحتها عن الحكم). هكذا يصف موقع رسمي لأحد أعلام الإسلام السياسي السعودي حركة طالبان البائدة، كما يستنكر زميل له في لقاء مع جريدة الرأي العام الكويتية أن تكون طالبان قد سقطت وبادت فيقول: حركة طالبان (سقطت من الواقع ولكنها لم تسقط من القلوب)!! كان الفيلسوف اليوناني أفلاطون طوباوياً حين كتب كتابه "الجمهورية" والذي رسم فيه الأطر العامة لنظريته في الحكومة والشعب وبشكل عام نظريته في سياسة الدولة، ولحق به من الفلاسفة المسلمين الفيلسوف "الفارابي" الملقّب بـ"المعلم الثاني" -تمييزاً له عن المعلم الأول الفيلسوف اليوناني أرسطو- فألَّف كتابه الشهير "آراء أهل المدينة الفاضلة" وقد ذكر في كتابه مجمل رؤيته التي صاغها بناء على تكوينه الفلسفي الذي كان جزء منه يونانياً وجزء منه صوفياً مع أجزاء أخرى تجمع لنا صورته الفلسفية الكاملة ولهذا حديث آخر. يتحدث الفارابي عن رؤيته هذه فيخبرنا أن (المدينة الفاضلة تشبه البدن التام الصحيح، الذي تتعاون أعضاؤه كلها على تتميم حياة الحيوان، وعلى حفظها عليه، وكما أن البدن أعضاؤه مختلفة متفاضلة الفطرة والقوى، وفيها عضو واحد رئيس وهو القلب وأعضاؤه –أي الجسد- تقرب مراتبها من ذلك الرئيس وكل واحد منها جعلت فيه بالطبع قوة يفعل بها فعله .. وأعضاء أخر فيها قوى تفعل أفعالها على حسب أغراض هذه التي ليس بينها وبين الرئيس واسطة.. إلخ) موسوعة الفلسفة 1/114. الفارابي يقول إن حال الرئيس (لا تكون إلا لمن اجتمعت فيه بالطبع اثنتا عشرة خصلة قد فطر عليها... منها: أن يكون تام الأعضاء.. ومنها: أن يكون بالطبع جيد الفهم والتصور لكل ما يقال له.. ومنها: أن يكون جيد الفطنة ذكياً). هذه بعض شروط الفارابي لمدينته الفاضلة وبعضها مستقى من نظريات سقراط وأفلاطون الفيلسوفين اليونانيين، وما يشكل على نظرية المدينة الطالبانية الفاضلة أن هذه الشروط تعتبر تعجيزية لـ"أمير المؤمنين" الملا عمر! يقابل "المدينة الفاضلة" -لدى الفارابي وفي فلسفته- "المدينة الجاهلة" وقد قسمها لأقسام سمّى ثانيها بـ"المدينة الضرورية" (وهي التي قصد أهلها الاقتصار على الضروري مما به قوام الأبدان من المأكول والمشروب والملبوس والمنكوح والتعاون على استفادتها). هذه نظرة عجلى على بعض مظاهر المدينة الفاضلة التي رغبها الفلاسفة مع اختصار شديد أرجو ألا يكون مُخلاً بالمقارنة المضروبة هنا، ولكن ما هي "مدينة طالبان الفاضلة"؟ وما هي أهدافها؟ وما هي قوانينها؟ وما هي أولوياتها؟ وما هي مواقفها من كل ما حولها وما يخضع لحكمها؟ وما موقفها من المرأة؟ وما موقفها من الأديان الأخرى؟ في أسئلة لا تكاد تنتهي والإجابة عليها واجبة لمقدِّسي طالبان والهاتفين باسمها إن لم يكن بألسنتهم فبقلوبهم. طالبان التي يمتدحها عدد من رموز السلفية الجهادية بنفَس موالٍ ودعمٍ غير محدود هي ذاتها طالبان التي يتغنى بها رموز الإسلام السياسي وبعض من فيهم "غفلة الصالحين" ممن يطبِّلون لكل ناعق ويركضون خلف سراب تأييد بعض "الشباب" الخاضع لتوجيهات قادة تنظيمات الإسلام السياسي، وهؤلاء الغافلون وإن كان بعضهم "علماء" أو "فقهاء" فإنهم قد تم استغلالهم ليكونوا حصان طروادة لغيرهم، يلعب بهم قادة التنظيمات تلاعب الكلَب بصاحبه. لقد كتب "هؤلاء" الكتب وأخرجوا المقالات والدراسات وأصدروا الكاسيتات ودبَّجوا الفتاوى وتغنوا بطالبان حلماً طالما داعب عقولهم، ووهماً طالما شيَّدوا له الخيالات في أذهانهم، لا فرق بين صحوي وتقليدي وتكفيري، الأكثرية كانت تسبح بحمد طالبان وتراها "يثرب الجديدة" فالهجرة لها واجبة ونصرتها فرض على الجميع كل بحسب طاقته، وتدين هذه الأكثرية بالولاء الروحي لـ"أمير مؤمني" طالبان الملا محمد عمر. وما زاد الأمر اختلاطاً على بعض "الصالحين" أن طالبان فجرت أصنام بوذا فأفقدت العقلاء اتزانهم والفقهاء فقههم والعلماء علمهم، فصرحوا بالتأييد بعد الكناية، وقامت سوق المزايدات في الثناء والولاء لتلك المدينة الطالبانية الفاضلة، وما علم هؤلاء أن هدم تلك الأصنام كان خطأ بالمنطق الديني وبالمنهج السلفي الصرف، وخطأ بالمنطق المصلحي الأصولي (نسبة لأصول الفقه)، وخطأ بالمنطق السياسي وتوازنات مراكز القوى العالمية وحسابات الأرباح والخسائر. لكن وبرغم ذلك كله كان "العمى الأيديولوجي" وهو رائد طالما كذب أهله، هو رائدهم ودليلهم فتبعوه وساروا في إثره لا يلوون على شيء، وأجلبوا بخيلهم ورجلهم للدعوة لطالبان وأمير مؤمنيها، حتى إذا وقعت الكارثة ونزلت أميركا بكل طغيانها وجبروتها، لم يستفق الغافلون المغرَّر بهم إلا على لون برتقالي بغيض يسجن أجسادهم، وأغلال موثقة، وأقفاص كأقفاص الحيوانات يقبعون داخلها هناك على الضفة الأخرى من العالم في "غوانتانامو". قوانين دولة طالبان الأساسية ليست سوى "حماقات صحوية" حوّلها الصحويون على مر سنوات إلى "ثوابت شرعية"!، وكان هدفهم أن تكون شعاراً حزبياً لهم يتميزون به عن غيرهم من باقي المسلمين، ومن أمثلة تلك الثوابت الصحوية الحمقاء تحريم الأخذ من اللحية ووجوب تغطية الوجه وتحريم عمل المرأة ووجوب صلاة الجماعة في المسجد وحرمان المرأة من التعليم ونحو ذلك، وأنا أؤكد هنا أن كل هذه المسائل هي مسائل جزئية صغيرة، أو بالتعبير الفقهي هي مسائل فرعية لا علاقة لها بأصول الدين ولا بثوابته، والخلاف فيها جميعاً قوي جداً والراجح لدى كثير من علماء الإسلام هو خلاف هذه المواقف، أقول هذا –فقط- للتذكير بحجم هذه المسائل الحقيقي بعيداً عن تحريف الغالين ومزايدات الطالبانيين الجدد. لقد جاءت مراسيم طالبان مفصَّلة على تلك الثوابت الصحوية حتى في أول بيان رسمي لطالبان بعد دخولها لكابول العاصمة الأفغانية، فأصدرت طالبان (مراسيم حكومية!) تفرض على الرجال لبس العمائم وتربية اللحى وقص شعر الرأس، كما تفرض على المرأة ارتداء العباءة التي تغطي كل الجسم بما في ذلك الوجه وتجبر الرجال على أداء الصلوات الخمس في المساجد. وكذلك قامت بإبلاغ النساء أن واجبهن يتمثل في إنجاب وتربية "الجيل المسلم القادم" -كما هو التعبير الصحوي الأثير- ولذا منعت النساء من ممارسة العمل، كما أصدرت مراسيم أخرى تمنع سماع الغناء والموسيقى والألعاب وتحرم وتجرّم التصوير أو نحت الإنسان أو الحيوان، كل ذلك بدون إلقاء أي بال للتفصيلات الشرعية والفقهية في هذه المسائل الفرعية. ومن أجل تطبيق هذه القوانين أعلنت طالبان "حملات حكومية" لمنع أية مخالفة لهذه الثوابت المزعومة، فأقيمت في الشوارع حفلات لإحراق أجهزة التلفاز وأشرطة الفيديو وكاسيتات الأغاني، وعوقب من يحلق لحيته من الرجال، وغير ذلك كثير من الجهالات التطبيقية للنظريات الصحوية التي تجعل من الخلافيات النسبية حقائق مُطلقة، ومن جزئيات الشريعة ثوابت شرعية. ما لم أذكره سابقاً هو أن طالبان في أول بياناتها تؤكد على أمر عظيم لا يمكن أن تتساهل فيه ألا وهو "منع النساء من غسل الثياب على ضفاف الأنهار"!!! أحب التأكيد أخيراً على أن "مدينة الفلاسفة الفاضلة" و"المدينة الطالبانية الفاضلة" كلتاهما يعتورها الكثير من الأخطاء والقصور وعدم التفهم لطبيعة الإنسان، وتبنيان مدينتيهما على جرفٍ هارٍ من الخيال والوهم والأحلام وتتجاهلان الإنسان، وما هكذا تصنع المدن ولا تبنى الدول ولا تشيد الحضارات، ومع ذلك فإن القرب من العقل والمنطق السليم أفضل ألف مرة من غياهب الخرافات الجوفاء!