ليس مقبولاً من محمد حسنين هيكل ولا من أي مثقف عربي استسخاف جغرافيا وتاريخ بلد عربي عريق مثل موريتانيا. فما ذكره هيكل على قناة "الجزيرة" في إجابة على سؤال حول رأيه في "النموذج الموريتاني" في التغيير السياسي كان إسهاباً سلبياً في غير محلِّه. وخلاصته أن موريتانيا تقع في أقصى العالم العربي "في أقصى الصحراء مُطلة على المحيط ولها وضع الصحارى التي تحجبها"، وبالتالي فإنه لا يتوقع لأي تجربة موريتانية في الديمقراطية أو سواها أن تكون ذات صلة أو تأثير على بقية البلدان العربية. موريتانيا أنجزت استفتاءً دستورياً شبه فريد في التسيُّس العربي إذ يحدد فترة الرئاسة بدورتين على أقصى تقدير, ويحاصر أي رئيس مستقبلي بالعديد من التقييدات، التي تحول دون إجراء أي تعديل يغيِّر من ذلك الأمر. وشعبها ونخبتها السياسية وعسكرها منهمكون في التحضير لانتخابات تعزز الخيار الديمقراطي. ذلك كله لا يعتبره هيكل ذا قيمة, فموريتانيا تعاني من "لعنة الجغرافيا". أشار هيكل أيضاً إلى ندرة الموارد الطبيعية في موريتانيا بما يحد من قدرتها على تعزيز حضور فعَّال وسوى ذلك. وقد أثارت أوصافه غضب كثير من السياسيين والمثقفين الموريتانيين, وهم على حق في غضبهم. ولعل كل من زار موريتانيا ويعرف عن قرب عمق الانتماء العربي فيها والتطلع الدائم نحو المشرق يدرك ويبرِّر الشعور بالخيبة ليس فقط مما ذكره هيكل, بل وأيضاً مما يسود في الخطاب العربي المشرقي من تهميش وأحياناً تهوين لموريتانيا. والغريب أن تصدر إشارات التهوين بموريتانيا عن خطاب ذي حمولة قومية عربية ووحدوية يفترض أن تكون معنية بتقدير كافة أمصار العالم العربي وتثمين تجاربها خاصة عندما تكون في اتجاه الحرية والديمقراطية والخيارات الشعبية. ويفترض بأبجديات هذا الخطاب أن يحتفي بكل ما يأتي من المغرب العربي تحديداً ويعززه. موريتانيا ظلمها العرب مرات لا تحصى, وربما أجمل الزميل توفيق رباحي ملامح من ذلك الظلم في الإدانة التي أنطوى عليها تساؤله عن "التشاطر على موريتانيا", وذلك في معرض نقده الصائب لكلام هيكل. أول تلك الملامح متمثل في مسألة "هامشية موريتانيا", ومعنى هذا التعبير ومغزاه خاصة إذا قدرت تلك "الهامشية" قياساً على إنجازات "دول المشرق المركزية", وهي "الإنجازات" التي نعيش ونعاني كوارث نتائجها حتى الآن. لكن المناكفة في مسألة المركز والهوامش, أو "الإقليم القاعدة" كما دأب التنظير القومي الناصري- الهيكلي على التركيز, لم يعد لها معنى نظري هذه الأيام –فالمراكز ذاتها أصبحت ضعيفة وهشة. ومن الغريب أن يفوت على هيكل الوحدوي أن أحد أسباب فشل الوحدة العربية حتى الآن هو منطق استعلاء "الشقيق الأكبر" وأحياناً كثيرة بطشه بالشقيق الأصغر خلال حقبة ما بعد الاستقلال العربي. والأغرب هو أن يفوت على كثيرين أيضاً الدرس الأكثر غنى في الاتحاد الإقليمي المتمثل في الوحدة الأوروبية القائمة بين دول كبيرة وأخرى صغيرة, بعضها يمتاز بموارد ضخمة, وبعضها الآخر يفتقدها. ورغم ذلك فقد تجلت الحكمة في منح صغير الدول الأوروبية وضعيفها مواقع متقدمة في الاتحاد وأحياناً على قدم التساوي مع الدول الكبرى بغية تعزيز انتمائها له وإشعارها بأنها جزءٌ لا يتجزأ من المشروع الكبير. ولهذا لم يكن عبثاً أن تفادى الأوروبيون وضع مقر الاتحاد الأوروبي (وأيضاً حلف الناتو) في واحد من البلدان الكبيرة مثل بريطانيا أو فرنسا أو ألمانيا, بل في بلجيكا البلد الصغير (والهامشي!). ولم يكن عبثاً أيضاً أن يشعر بلد صغير مثل لوكسمبورغ بعدد سكان لا يتعدى نصف مليون بانتماء ودور غير هامشي في إطار اتحاد ربما وصل تعداد سكانه مع الأعضاء الجدد إلى نصف مليار نسمة. في المقابل تقدم التجربة العربية في التكامل الإقليمي دروساً عديمة الحكمة على صعد لا تحصى, لكن لنتذكر منها الإصرار المصري المتوتر على استعادة مقر الجامعة العربية من تونس, وعلى الإبقاء على الأمين العام لها مصري الجنسية, وسوى ذلك من "أعراف" لا تفيد إلا في تعزيز التفارق بين الدول العربية. "لعنة الجغرافيا" التي أشار هيكل ضمناً إلى أنها لحقت بموريتانيا إذ أبعدتها عن "المركز العربي!" تحتاج أيضاً إلى وقفة. فموريتانيا الواقعة على ضفة المحيط الأطلسي وتزيد شواطئها المطلة عليه عن ألف كيلومتر, وتصل المغرب العربي الكبير بغرب أفريقيا وكانت تاريخياً بوابة العرب إلى تلك المنطقة لا تعاني من "لعنة الجغرافيا". وهي أيضاً أقرب إلى أوروبا وأميركا من العديد من البلدان العربية. وبسبب موقعها الاستراتيجي ذاك فإن الصراع الفرنسي- الأميركي على مد النفوذ فيها والتقرب إلى نخبتها السياسية كان وما زال أحد سمات السياسة الغربية إزاء البلد. وبسبب ذلك أيضاً فإن إسرائيل كانت في غاية الحرص على إقامة علاقات مع موريتانيا وكان لواشنطن دور مركزي في تحقيق ذلك الهدف الإسرائيلي الغالي في عهد الرئيس السابق. لو كانت ثمة "لعنة جغرافيا" تعاني منها موريتانيا لما انصب عليها الجهد الأميركي والإسرائيلي. لكن هناك "لعنة المركزية المشرقية" التي تتحكم في الفكر القومي العربي وما ينتجه من تقديرات وتوصيفات لبقية العرب, انتهت بإنتاج نفور مغاربي يشعر بدفء أكثر إزاء هوية مغاربية شبه منفصلة, بل وانتهت أيضاً بنفور خليجي يشعر بدفء أكثر إزاء هوية خليجية شبه منفصلة هي الأخرى. موريتانيا ظلمها أيضاً, وتشاطر عليها, الإعلام العربي والمثقفون العرب. فبعد أن أقام نظام حكم معاوية ولد الطايع علاقات دبلوماسية كاملة مع إسرائيل في نهاية التسعينيات, وكانت خطوة استبدادية مكروهة شعبياً على نطاق كبير, أستأسدت أصوات لا حصر لها للتنديد بموريتانيا. والمفارقة المحزنة والمدهشة أن كثيراً من تلك الأصوات كانت تنطلق من بلدان عربية لها علاقات دبلوماسية كاملة وعلنية مع إسرائيل أيضاً, أو علاقات شبه علنية, ومع ذلك لم تظهر نفس البطولة والاستئساد في انتقاد بلدانها. وظلت موريتانيا لا تحظى بأية تغطية إعلامية أو سياسية حقيقية في العالم العربي, واختصر البلد كله وشعبه بخبر هنا أو هناك مرتبط بالعلاقة الرسمية مع إسرائيل. يبقى أن موريتانيا بلد فقير حالياً, وهو في الغالب الأعم ما يغري الآخرين بالاستئساد عليه. لكن علينا أن نتوقع, ونأمل, أن ذلك سيتغير بتحسن اقتصاد موريتانيا بعد اكتشاف النفط الذي قد يساعد الموريتانيين على استثمار بقية موارد بلدهم, خاصة المعادن والثروة السمكية. عندما تصبح موريتانيا بلداً نفطياً سوف يعدل كثيرون خطابهم, ويشطبون وصف "الهامشية", ويفكرون مرتين قبل الاستخفاف بهذا البلد العربي الأصيل. ولنا في صيرورة الخليج العربي مثل كبير. إذ هل بإمكان هيكل مثلاً أن يطلق وصف الهامشية على دول الخليج العربي دولة دولة إن لجهة ما حققته من تقدم اقتصادي وإعلامي, أو لجهة الدور السياسي والإقليمي المهم الذي تلعبه بعضها مقارنة مع بلدان عربية "كبرى"؟