لفت المراقبون في انتخابات الكويت، أنّ المعارضين للحكومة على اختلاف أُصولهم وأفكارهم وأهدافم البعيدة، احتفظوا بمقاعدهم وحجمهم في الانتخابات، بل إزدادوا عُدّةً وعدداً شيئاً ما. لكنّ يافطةَ المعارضة التي يتجمعُ تحتها هذا المشيج من الأفراد والنزعات والجماعات، لا ينبغي أن يصرف الانتباهَ عن الظاهرة الإسلامية المتنامية، كما أوضحت ذلك نتائجُ الانتخابات، وكما تدلُّ عليه الأحداثُ الأخيرةُ في الصومال. عندما حصلت "حماس" على الأكثرية في المجلس التشريعي الفلسطيني، قال الكثيرون إنّ هذا كان استثناءً بسبب الظروف الاستثنائية في فلسطين، وبسبب الفوضى والفساد في حركة "فتح"، والسلطة الفلسطينية. ثم تقدمت قوات "المحاكم الإسلامية" في الصومال، فقال كثيرون إيضاً إنّ الفوضى التي أحدثها أُمراءُ الحرب طوال أكثر من عقد، دفعت الشباب الصوماليين إلى الحسم لصالح الحلّ "الطالباني" بالصومال؛ مثلما حدث من قبل في أفغانستان (1994-1997). وكان يمكن وقتها التنبيه إلى خطَل هذا التحليل بالالتفات إلى وقائع ونتائج الانتخابات النيابية في مصر. فمصر لا احتلالَ فيها، ولا حرب أهلية- ومع ذلك فقد أوشك الإخوانُ المسلمون أن يلقّنوا النظامَ وسائرَ الأحزاب السياسية درساً في الجماهيرية، وفي القدرة على التنظيم، والفوز برضا الناس. لكنْ حتى في حالة مصر، كان هناك من قال إنّ الافتقار للتداوُل على السلطة، وخطل تصرفات الحزب الحاكم؛ كلُّ ذلك قاد إلى تصويتٍ احتجاجيٍ كاسح. بيد أننا حتى في هذه الحالة نعرفُ أنَّ الأمر لو كان يقاسُ بشدة المعارضة للنظام، لكان الذين ينبغي أن يفوزوا أقطاب حزب "الغد"، والمشاركون في حركة "كفاية". فقد تحدى هؤلاء النظام فعلاً وباسم الديمقراطية منذ ما قبل انتخابات رئاسة الجمهورية، وإلى ما بعد الانتخابات النيابية؛ ومع ذلك فإنهم ما كادوا يحصلون على مقعدٍ واحد! وحالةُ الكويت هي الحالةُ النقيضُ لحالة الصومال. فالدولةُ قائمةٌ وواحدة، والرفاهية منتشرةٌ لدى فئات الشعب كافة، والنساء العاليات الصوت يشاركن في الانتخابات تصويتاً وترشُّحاً للمرة الأولى، والإسلاميون ليسوا بعيدين من "الولاء" للنظام السياسي كما هو لأعوامٍ وأعوام. ومع ذلك فإنّ الناسَ اختاروا ثلث أعضاء المجلس الجديد منهم، دونما اعتبارٍ للحلفاء الانتخابيين، والذين قد يرفعون سقف المعارضة إلى أكثر من نصف عدد النواب المنتخبين. إنّ المعروفَ أنّ الكويت تعرضت لمحنةٍ هائلة عندما احتلتْها جيوش صدام حسين عام1990/1991. وفي حين ظلت أطرافٌ كثيرةٌ بالكويت تتكلم وتعملُ ضد النظام العراقي بعد إخراجه من الكويت بالقوة؛ فإنّ الإسلاميين هناك- متطرفوهم ومعتدلوهم- اعتبروا تحرير الكويت نهاية المطاف، وكفّوا عن مهاجمة النظام العراقي، وبخاصةٍ على مشارف الإعداد للغزو الأميركي لذالك البلد؛ مما دفع بعض الوطنيين والقوميين السابقين إلى اتهامهم بقلة الوفاء لوطنهم؛ ومع ذلك فقد رأى الكويتيون أو كثرة منهم أنّ الإسلاميين ما يزالوا موضع ثقة. وقد كان المأخوذ على الإسلاميين في الكويت والأردنّ واليمن، أنهم يتحالفون مع القبائل ويغلّبون الولاءات المحلية. لكننا نعرفُ منذ مدة أنّ الطرف الأقوى في التحالف القَبَلي/ الإخواني إنما هو "الإخوان المسلمون"، والقَبَليون بحاجةٍ إليهم وليس العكس. وفي الانتخابات الكويتية الأخيرة، أعطى "الإخوان" والسلفيون والإسلاميون الدستوريون لحلفائهم المستقلين والقبليين وأخذوا منهم؛ لكنّ ما أعطوا كان أكثر بكثيرٍ مما أخذوا. وأصوات النساء التي دخلت المعركة لأول مرةٍ صبّت لصالح الإسلاميين بخلاف ما كانت الأصوات العالية تقول من أنّ النزعات النسوية ستحسم الأمر لصالح الليبراليين وصالح أنصار الحكومة! لقد أردتُ القولَ من وراء هذا الاستطراد كلِّه، أنّ الظاهرة الإسلامية في العالم العربي، والعالم الإسلامي، هي ظاهرةٌ أصيلةٌ بغضّ النظر عن سوء الإدارة السياسية، وعن الغزو الأميركي للعراق. فالإسلاميون قريبون من الجمهور ومشكلاته وتطلعاته. وهناك صعودٌ شعائريٌّ ورمزيٌّ كبير لدى سائر فئات الشعب؛ وهم يعتبرون الإسلاميين متماهين معهم لهذه الجهة، ولجهة العداء لإسرائيل والولايات المتحدة من منفذٍ آخَر. ويهمُّ الجمهورَ طبعاً أن تكونَ إرادتُهُ ظاهرةً في إدارة شؤون الدولة. لكنه يريدُ أيضاً إدارةً شفافةً لا يرى فريقاً غير الفريق الإسلامي مؤهَّلاً لها حتى اليوم. ويأتي العاملُ الرابعُ والمتمثل في وجود مشكلاتٍ مستعصية وطنية أو قومية في كثيرٍ من الدول العربية والإسلامية، وقد مضت عليها عقودٌ من دون حلّ. وقد لا يستطيع الإسلاميون حلَّها، لكنهم يقدمون منظوراتٍ وممارساتٍ جذرية مستهينين بالأخطار والنتائج. وهذا سببٌ آخَرُ لاندفاع الجمهور باتجاههم حتى في البلدان التي يبدو النظامُ السياسيُّ فيها قابلاً للإصلاح بتغييراتٍ بسيطة. ويبقى هناك العاملُ الأخيرُ، والذي تتفرعُ عليه شتّى المسائل الأُخر: هناك صحوةٌ دينيةٌ حقيقيةٌ في الوطن العربي والعالم الإسلامي، تتخذ أشكالاً متنوعةً ومتزايدة: من الإقبال على أداء الشعائر، إلى الحجاب والنقاب لدى النساء، وإطلاق اللحى ولبس الدشاديش لدى الرجال خارج منطقة الخليج، إلى المنظور الآخر للعالَم المعاصر وثقافته ومصائره، وصولاً لنظام الحكم الذي ينبغي أن يسودَ أصولاً ووظائف. وما عاد من الممكن فصل رؤى وسلوكات الأفراد عن التأثيرات على رؤية المجال العامّ، والسلوك فيه. فالمتدينون-وقد صاروا كثرةً اجتماعيةً وثقافيةً- يريدون التحول إلى أكثرية سياسية. وهم لا يقبلون ما يعتبرونه انفلاتاً على المستوى الفردي أو الجماعي. وهكذا فهم مسيَّسون بشكلٍ ما، من حيث إنهم يملكون نظرةً تربطُ بين الخاصّ والعامّ. فقد لا يقولُ جميعُ هؤلاء بعقيدة الحاكمية الإلهية في المجتمع والدولة؛ لكنهم يريدون جميعاً حاكماً متديناً صورتُهُ الخارجيةُ وسلوكُهُ الخارجي يُماثلُ ما يتشكّلون به ويقومون به باعتباره جزءاً من الدين. وليس صحيحاً أنه ما كانت هناك في مجتمعاتنا التقليدية تفرقةٌ بين الخاصّ والعامّ، وأنّ مفاهيم الحرية الفردية جديدةٌ ومأخوذةٌ من الغرب. فالذي أفدْنا منه كثيراً من الغرب الحديث، مبادئ وقضايا تنظيم الدولة، والعمل السياسي، أي آليات السير في المجال العامّ– أما قضايا الخاصّ والعامّ فقد كانت مُراعاةً بدقةٍ في المجتمعات التقليدية حتى مشارف الأزمنة الحديثة؛ بما في ذلك مسائل الحريات الفردية. والذي يحدث الآن- وليس عندنا فقط بل في الولايات المتحدة وبعض بلدان الثوران الديني الأخرى- أنّ أكثر المتدينين تحولوا إلى دُعاةٍ لرؤاهم الخاصّة للعالم. وهم يعتبرون كلَّ مسألةٍ اجتماعية- أي تتناولُ أكثر من فرد- شأناً من شؤون المجتمع يحقُّ لهم التدخُل فيه. بل إنهم يعتبرون ذلك من واجبهم، لصَون دين المجتمع وتقاليده، خاصةٍ أنهم يربطون بين ما يعتبرونه "مخالفةً لأوامر الله" وبين ما يُصيبُ المجتمع العامّ بفعل أحد أفراده، حاكماً كان أو وجيهاً أو ثرياً بارزاً. فمسألة مثل الإجهاض أو ظاهرة مثل المثلية الجنسية، حوَّلها المتدينون الأميركيون، من مشكلة اجتماعية أو طبية إلى مسألة دينية مسيَّسة، شاركوا بدافعٍ منها ومن غيرها في الانتخابات وأتوا بسياسيين إلى الكونغرس وإلى البيت الأبيض يدعمون مطالبهم وتصوّراتهم لتنظيم المجتمع، وحيوات الأفراد والفئات. وهذا ما يريده الجمهور المتدين في العالمين العربي والإسلامي: إنه يريد استعادة ما يعتبره الهوية الخاصّة والمتميّزة للأفراد وللمجتمعات الإسلامية، والتي يعتقدون أنها كانت سائدةً، وأنه جرى التخلّي عنها تحت وطأة الضغوط والتدخلات الغربية (الغزو الثقافي)، وتحت وطأة مسايرة الأنظمة الحاكمة للغربيين وإعراضها عن "تطبيق الإسلام"! إنّ التغيير الذي يسعى إليه الجمهور، ويسعى إليه الإسلاميون جذريٌّ وشاسع، وهو في كثيرٍ من جوانبه غير واقعي وغير ممكن. لكنْ قبل البدء بمناقشة ما هو ممكنٌ وما هو غير ممكنٍ، يكونُ علينا أن نعترف بأصالة الظاهرة الإسلامية، أو بأنّها تتناول فئاتٍ اجتماعيةً واسعةً ومسيَّسة، وأنّ النساء لا تقلُّ مشاركتهنّ في تلك الميول والنزعات عن الذكور. والقولُ بارتباط صعود الظاهرة الدينية بسوء إدارة الشأن العامّ أو بالسياسات الإسرائيلية والأميركية، لا يعني أن هذا الصعودَ عارضٌ وله نهايةٌ أو تضاؤلٌ باتجاه تلك المشكلات للحلّ. فحتّى الحلول أو مشروعاتها يريد لها الجمهور أن تكون إسلامية، والانتخاباتُ الكويتية، وما يجري بالصومال (وهما على طرفي نقيض) دليلٌ واضحٌ على ذلك.