أثارت الانتخابات البرلمانية التي جرت في العالم العربي مؤخراً، ومنها الكويت، نفس الأسئلة حول التنافس الإسلامي-الليبرالي، وتفوق الأحزاب الدينية على الجماعات الليبرالية، أو التي تعتبر نفسها أقرب إلى الليبرالية. وعاد هؤلاء ليطرحوا من جديد عوامل نجاح المنافسين وأسباب تراجع التيار الليبرالي، وهو التيار الذي يجد سنداً دولياً واضحاً، وبخاصة منذ تفكك المعسكر الاشتراكي في 1989-1990 ، والاعتداء على المركز التجاري في نيويورك في 11 سبتمبر 2001. وإذا كانت أسباب نجاح الإسلاميين قد تختلف من بلد إلى بلد، ومن مرحلة إلى مرحلة، فإن هذا ينطبق على الليبراليين كذلك. ولقد نظرت في الواقع الكويتي وتفاصيل تجربته السياسية من ناحية هذا التنافس أو الصراع، فوجدت نقاطاً كثيرة يمكن الإشارة إليها في ضعف التيار الليبرالي لعل أبرزها خمس: 1- أول مشاكل التيار صعوبة تنظيمه وتوحيد وجهات نظره. ويعتقد البعض واهماً أن كل من كان خصماً أو معارضاً للإسلاميين يمكن أن يصنف في الإطار الليبرالي. وهذا خطأ سياسي وفكري جسيم، وكم من معادٍ للإسلاميين تراه من حزب اللامبالاة أو التشدد القومي أو بعض التوجهات السياسية الجماعية أو الفردية الغامضة. وفي الكويت، كما في مجتمعات أخرى، فجوات واسعة في النظر إلى مخاطر التشدد الديني والهيمنة الأصولية. فهناك نخبة الاقتصاد، وهناك نخبة الفكر والإعلام، ونخبة السياسة، ونخبة القانون من المحامين والقضاة، والنخبة الحاكمة! وفي حين يتجنب الإسلاميون الدخول في تفاصيل الواقع ويميلون إلى الشعارات العامة، تجد أن هذه التفاصيل والرؤى والمصالح تضغط بقوة على أي جهد يبذل لتوحيد التيار الليبرالي. ثم إن الإسلاميين كما يدعون، يجتمعون على الكتاب والسنة، أو ربما أعمال الشيخ ابن تيمية والشيخ حسن البنا، وبن باز وسيد قطب، فعلى أي "كتاب وسنة" يجتمع "الليبراليون"؟ هل يمكن أساساً بناء حزب عقائدي، أو جماعة أيديولوجية متعصبة للدفاع عن الديمقراطية والليبرالية؟ الليبرالية بالطبع لا تُبنى على التزمت! 2- ثاني مشكلات الليبراليين الكويتيين، هو تقديم حلول قائمة على الديمقراطية والاقتصاد الحر، للواقع الكويتي، حيث الثروة الأساسية وكل فرص العمل والقوة الاقتصادية المحركة بيد الدولة، وحيث نحو ثلثي السكان من غير المواطنين. هل تبيح الليبرالية هذه الفوارق بين رواتب وحقوق المواطنين والوافدين والعمالة الآسيوية؟ هل تنسجم قوانين الإقامة والجنسية وفرص الاستثمار والملكية وغيرها على ما بينها من تفاوت بين المواطنين وغيرهم، مع الأسس الأخلاقية والقانونية والسياسية والاقتصادية الليبرالية؟ كلا بالطبع، على الإطلاق. الحل الليبرالي الذي يقدمه الاقتصاد الحر الحديث للكويت وربما غيرها من دول الخليج، هو تقليص العمالة المتكدسة القادمة من الخارج، والاكتفاء بنسبة محددة مفيدة بقدر حاجة الاقتصاد، وإخضاع الجميع مواطنين ووافدين، لنفس القواعد والقوانين، ولمبدأ الأجر المتساوي للعمل المتساوي، ولإلغاء نظام الكفالة وتجارة الإقامات، بل وربما مضاعفة رواتب الخدم والسواق و"صبيان البيوت" وفق القواعد الدولية لتكلفة ساعة العمل! ولكن هل تستطيع الكويت وغيرها آنذاك دفع رواتب كل العاملين؟ وهل سيوافق الناس؟ وهل تستطيع البلاد تجاهل ضغوط الدول العربية والآسيوية المصدرة للعمالة، وما قد يسببه هذا المنع من مشاكل لميزانياتها؟ وكيف ستتصرف قطاعات العقار مع كل هذه العمارات والشقق الفارغة ومحلات البقالة والسوبر ماركتات؟ الحقيقة ربما إذن، أن حلول تحديث و"لبرلة" الحياة السياسية والاقتصادية في أي دولة معاصرة متوفرة، وكذا في الكويت! ولكن من يتحمس لتطبيقها الدولة أم الشركات أم عامة الجمهور؟ 3- ثالث مشاكل منافسة التيار الليبرالي للإسلام السياسي في الكويت، هي مشكلة القيادة والزعامة الكاريزمية القادرة على تسيير الحركة، واجتذاب الجمهور، ورسم السياسات. فقد تزعمت حركة "القوميين العرب" الحياة السياسية في الكويت خلال خمسينيات وستينيات القرن العشرين، وبخاصة بعد أن تحالفت مع التيار الناصري المصري وشعاراته العروبية والوحدوية. وعندما انهار هذا البناء مع نكسة عام 1967، برز التيار الديني الذي كان قابعاً في الظل منذ تأسيسه عام 1952 أو ما قبل ذلك بقليل. ولم يستطع بقايا التيار القومي ومناصروه أن يعيدوا بناء أنفسهم على أساس ديمقراطي ليبرالي بل اتجه باستمرار نحو "اليسار" والمعارضة الحادة. وهكذا، وبخاصة مع انهيار المعسكر الاشتراكي وتبعثر القوى "اليسارية"، وجد التيار الديمقراطي الليبرالي نفسه بلا قيادة في الكويت، كما في العالم العربي عموماً. وفي الكويت وغيرها اليوم، العديد من المعارضين السابقين والحاليين، ولكن هل قيادة التيار "الليبرالي" تماثل قيادة الأحزاب القومية و"اليسارية"؟ 4- تتميز الجماعات الإسلامية بقدرتها المشهودة والمعروفة على التغلغل في كل الأوساط الشعبية، وبخاصة البسيطة والفقيرة منها. فأفكارها الدينية المبسطة مقبولة مقدماً بسبب التربية الإسلامية، والمصطلحات التي تتداولها مفهومة للجميع على وجه العموم. وليس هذا بالطبع حال دعاة الديمقراطية الليبرالية، وما تتسم به من نخبوية وتعقيد في العالم العربي والعالم الثالث عموماً. وتنشأ عن هذه "النخبوية" مشكلة حقيقية، هي عدم قدرة الفكر الليبرالي والأهداف الديمقراطية وأفكار التحديث والحرية، على الوصول لقطاعات الشعب لأسباب كثيرة. من هذه الأسباب انتشار الأمية والمحافظة الاجتماعية وتشويه الخصوم لها وقلة الخبرة السياسية وغير ذلك. ومما يعرقل الفكر التحديثي كذلك عرقلة وتدخل أرباب المصالح والنفوذ السياسي لمنع انتشاره. فباستطاعة أي رجل دين أو حتى بعض "شيوخ" في الحركة الإسلامية أن يخطب باستمرار في الإذاعة والتلفاز، وأن يحاضر في المساجد والمدارس والسجون، ولكن كم متحدثا عن الدستور والحقوق والحريات ومخاطر مزج السياسة بالدين وغير ذلك، تتاح له فرصة مماثلة في أي دولة عربية؟ 5- آخر النقاط هنا، مشكلة وصول الأفكار الليبرالية والديمقراطية إلى المرأة، فما أن أُعطيت المرأة في الكويت مثلاً حق الانتخاب، حتى رحب الإسلاميون قبل غيرهم بصوتها الانتخابي الذي سينهال على صناديقهم، ويؤمن وصولهم، ويعزز نفوذهم. وهذا ما جرى يوم 29/5/2006، حيث ساهمت الأصوات النسائية في إنجاح أكثر من نائب إسلامي، أو نقله من الترتيب الرابع إلى الأول! وكان نصيب النائبين السلفيين أحمد باقر 48% ود. وليد الطبطبائي 45% من أصوات النساء في مناطقهم. وفي منطقة الروضة نال د. ناصر الصانع، من الحركة الدستورية الإسلامية، 53% من أصوات النساء، في حين كان نصيب منافسه، الذي عرف عنه التأييد الدائم لحقوق المرأة السياسية 49%. إن هذه النتائج عرضة للتغيير في الانتخابات القادمة بلا شك، مع زيادة خبرة المرأة الكويتية في تعقيدات ودهاليز الترشيح والتصويت، ولكن المشاهد انحسار التوجه الليبرالي والتحرري وحتى مجرد "السفور" في العالم العربي والإسلامي. وهناك نجاحات نسائية باهرة للإسلاميين في صفوف المرأة، في الأوساط الشعبية والطلابية والجامعية والمهنية، لا تقل عن نجاحاتها في أوساط الرجال. هل ستغيير الأمور؟ نعم بالطبع... ولكن لا أحد يعرف متى!