الخداع عملية مقصودة وغير مقصودة تمر بنا جميعاً، هل نظرت أخي القارئ إلى الشارع الممتد وأنت تقود السيارة، لاشك أنك مررت يوماً بتجربة السراب الذي تحسبه من بعيد ماء وهو في حقيقته خداع لعملية الإبصار والإدراك العقلي لما رأيت من بعيد، لكنك بمجرد اقترابك من هذا الأمر تدرك أنك كنت مخدوعاً بما رأيت. هذا عن الخداع البصري، فما شأن العقل بهذا؟ هناك أمور كثيرة في حياتنا مرتبطة بتصورات عقلية لدى الإنسان غرست في هذا الفكر بالممارسة أو الاطلاع، لكن حقيقة الأمر تكمن عندما نريد تحقيق هذه التصورات أو نقلها من الصورة العقلية إلى الواقع أو من الخيال إلى المحسوس. دعوني بعد هذه المقدمة أدخل في صلب الموضوع. خلال الأسبوع الماضي كنت في إحدى المدن الأوروبية عندما حصلت التطورات الأخيرة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وكنت في تجمع علمي تم خلاله التعرض للعديد من القضايا وبينها فلسطين وما يجري فيها، هنا تعرضت لموضوع الخداع العقلي، كلنا كمتعلمين في الغرب نؤمن بالديمقراطية، لأنها تمثل خلاصة التجربة السياسية العالمية، وكثير منا كان يحلم باليوم الذي تنعم فيه الدول العربية بالمؤسسات الديمقراطية، وقد أساء التطبيق العملي للديمقراطية العربية بالديمقراطية الغربية، وفجأة أراد الغرب أن يعلم العرب معنى الديمقراطية الغربية، فكان ما نرى اليوم في العراق من تدمير ونهب وسلب تحت وسمع قوى الاحتلال، تجربة أخلت بالواقع الفكري للديمقراطية. عودة لقضية فلسطين، كي نرى العجب العجاب في التفاوت بين الممارسة والفكر، فقد دندن الغرب كثيراً للديمقراطية، لكن ما أن أفرزت صناديق الاقتراع نتائج غير مرغوبة ولا متوقعة للغرب، حتى أطلقت جل دوله حرباً معلنة باسم الديمقراطية على الديمقراطية؛ فالحكومة الفلسطينية المنتخبة لا تسمى بهذا الاسم بل يطلق عليها في الإعلام الغربي، وبعض العربي أيضاً، حكومة "حماس"، وعمليات اختطاف أعضاء هذه الحكومة من وزراء ونواب، والتي تحرمها التشريعات الدولية، ليست عملية تدخل من دولة أجنبية لتقويض العملية الديمقراطية، لكنها حق مشروع للإسرائيليين! وأسلوب القتل الجماعي الذي يمارس على الشعب الفلسطيني بكل أطيافه من خلال الحصار التجاري والإغلاق العسكري والحرمان المادي والتدمير المتواصل... كل هذا مشروع للدفاع عن النفس لدى الإسرائيليين، حتى لو قادهم الأمر إلى قتل أسرة بريئة على شاطئ البحر... كل هذا باسم الديمقراطية. لا أعرف، صدقاً، وأنا أكتب هذا المقال، كيف ستنتهي أزمة الجندي الإسرائيلي المختطف من ساحة الحرب كما تعرفها التشريعات الدولية، لكن لو كنتم في أوروبا في بداية الأزمة ورأيتم البراءة التي تصور بها حياة هذا الجندي، في مقابل الجريمة النكراء التي ارتكبت في حقه من قبل الفلسطينيين، وكيف أنه من المسوغ لديهم أن تجيِّش إسرائيل الجيوش على الأرض وتصب حمم الجحيم من السماء، وتزيد من بلاء الفلسطينيين في عنف بلا نهاية... لعلمتم أعزائي القراء ما الذي أقصده بالخداع العقلي، حيث يتأكد للعقلاء أن الدندنة على منوال الديمقراطية لا تقصد بها مصلحة الدول العربية، بل هي وسيلة لتحقيق غايات الدول المصدرة للديمقراطية، ومتى ما تعارضت صناديق الاقتراع مع هذه الغايات، فإن نتائج الديمقراطية غير مرحب بها. نقطة أخيرة في هذا المقال مرتبطة بما قبلها؛ نحن جميعاً ندين التطرف والإرهاب المصاحب له في الدول العربية والإسلامية، إذ أعلنت دول العالم حرباً واسعة وغير منتهية على الإرهاب، حتى أن هذه الحرب في بعض الأوقات جمدت الأموال التي كانت مرصودة لليتامى في بعض الدول، لكن أليس من الحرب على الإرهاب تجفيف ينابيعها الواقعية، وهي ترخيص الدم العربي واستهانته؟ ماذا يكون جوابك كمفكر معتدل على شاب متحمس يقول لك: كيف ننبذ العنف ونحن نرى هذا الظلم المصبوب صباً على العرب في فلسطين، كل هذا بتأييد ودعم من العالم؟ الفكر لا يحارب بالخداع الفكري فقط، بل بالممارسات الواقعية المتسقة والمقنعة.