يتجاذب العرب انفعالان: اليأس والأمل. اليأس من التقدم الروحي وبلوغ الغاية، والرجاء في استكمال الشوط والوصول إلى النهاية. ينتاب العرب إحساس باليأس من بعض أنظمتهم السياسية التي لا تحرك ساكناً بالنسبة للدماء التي تسيل في العراق والتي بلغت، حسب بعض الإحصائيات، منذ الغزو الأميركي- البريطاني أكثر من خمسين ألفاً من الأبرياء. وتركت الانتفاضة الفلسطينية الأولى، انتفاضة الحجارة، والثانية انتفاضة الأقصى، والثالثة انتفاضة التحرير، تحت رحمة جيش الاحتلال الإسرائيلي، يصفي قادة المقاومة يومياً، ويقتل المدنيين، ويهدم المنازل على مدى عشرين عاماً من 1987 وحتى الآن. وربما هي أطول انتفاضة لشعب في التاريخ من أجل التحرر والاستقلال. والجيوش العربية قامت بالثورات العربية منذ نصف قرن، منذ نهاية الأربعينيات وأوائل ومنتصف الخمسينيات حتى الستينيات. تحول ضباطها الأحرار إلى حكام، ومن ضباط إلى رؤساء. والآن تدين بالولاء للنظام. وتحول بعض الضباط إلى الحياة الاقتصادية في مكاتب الاستيراد والتصدير. كما عهد للقوات المسلحة بالمساهمة في تأسيس الحياة المدنية، والدخول في التنمية البشرية، وبناء الخدمات للناس بعد أن عجزت الوزارات عن إقامة الكباري، ومد الجسور، وتجديد شبكات المياه والكهرباء. وأصبح من مهام بعض وزارات الدفاع تسهيل حياة الضباط بتوفير الخدمات لهم في الإسكان والعلاج والمواصلات والمناسبات الاجتماعية وكما تفعل الحركات الدينية في دور المناسبات الملحقة بالمساجد. ويشتد اليأس بالناس عندما يشاهدون باستمرار قوى الهيمنة في السيطرة على الوطن العربي، الإطباق على السودان باسم الجنوب ودارفور، والإطباق على الصومال باسم القضاء على "أمراء الحرب" أولاً، ثم باسم تعاطف اتحاد "المحاكم الإسلامية"، السلطة الجديدة البازغة مع تنظيم "القاعدة". كما يشتد اليأس عندما يرى الناس عقد اتفاق عسكري بين دولة عربية أخرى والغرب، وقد كانت تلك الدولة عدوة الغرب الأولى وخارجة على القانون الدولي، حسب التوصيف الغربي، وراعية للإرهاب، وتنمي قدراتها النووية. وقد كان الوطن العربي منذ الثورات العربية مناهضاً للأحلاف، "حلف بغداد"، و"الحلف الإسلامي".... الخ. ولديه اتفاقية الدفاع العربي المشترك. فالعرب قادرون على حماية بعضهم بعضاً قبل أن ينفرط العقد، وتغيب دول محورية عن الساحة، ويتم تهميشها وإخراجها من قلب العرب. وقامت دول عربية، وأحياناً إسرائيل، بتدريبات عسكرية مشتركة مع الولايات المتحدة، ليس للدفاع عن الأوطان بل للدفاع عن بعض النظم الحاكمة. وفجأة تكتشف خلية في لبنان للتجسس لحساب إسرائيل التي ربما ساهمت في كثير من عمليات الاغتيال الأخيرة للقادة والنواب والصحفيين اللبنانيين. ويزداد اليأس كلما تدخلت بعض النظم السياسية وضغطت على شعوبها، ومواطنيها في الداخل, فقد مر قانون السلطة القضائية، في بلد عربي كبير، دون عرضه على القضاة أصحاب الشأن، ووافق عليه المجلسان النيابيان. وصدقت عليه السلطة التنفيذية بالرغم من معارضة القضاة وحولهم المعارضة السياسية بكافة أطيافها. ويمر الآن قانون الشائعات لحبس الصحفيين على جرائم لم يرتكبوها وخرقاً لحقوق "سرية مصادر المعلومات". ومازالت قضية الحريات مطروحة في كل أرجاء الوطن العربي مع اختلاف درجاتها حتى ولو كانت صالونات أدبية أو منتديات فكرية أو مجتمعات ثقافية. والعواصم العربية على التوالي تحتفل بأنها عواصم الثقافة العربية الإسلامية من اليونسكو أو المؤتمر الإسلامي. وطال انتظار العرب وفرغ صبرهم. ولم يعد "الصبر مفتاح الفرج" مثلاً يجدي في شيء. فالإناء يغلي، والكرامة مهانة كل يوم. لم يعد أحد يعترف بهم في نظام العالم الجديد الذي تضعه الدول الكبرى أو الإرادات الوطنية المستقلة التي مازالت في العالم الثالث مثل ماليزيا وفنزويلا وجنوب أفريقيا وغيرها. ومن طول الانتظار ترهَّل الجسد العربي، وتعوَّد عليه، وانشغل بهموم الدنيا وأمور المعاش. وإن تحرك فلمشاهدة مباريات المونديال أو لسماع صوت مغنية شابة جديدة أو لصغائر الأمور، يملأ بها فراغه، ويفرّغ فيها طاقاته مادام الطريق العام مسدوداً أمامه. وكلما استمرت حالة اليأس هذه ازداد الوطن العربي تفككاً وتشرذماً، وتمزقت أوصاله. ثم يصعب التجميع بعد ذلك من أجل استعادة حلم الستينيات عندما كان للعرب مشروع قومي تقدمي اشتراكي وحدوي. ومع ذلك تتراءى أمام العرب بعض مظاهر الأمل. فيتعلقون بها كما يتعلق الغريق بطوق النجاة. فالمقاومة في العراق مستمرة، والقوات الأميركية متوحِّلة في طمي العراق مهما دمرت آثاره، وتمثال بانيه أبي جعفر المنصور، ومحو ذاكرته التاريخية في اللغة والشعر والفلسفة والفن. وتتكرر مأساة فيتنام. وينتصر شعب فيتنام على أعتى آلة جهنمية للحرب. فالاحتلال مداه قصير، والاستقلال الوطني هو المدى الطويل. والمقاومة الفلسطينية مازالت ترفض الاستسلام الكامل والتنازل عن الأرض والقضية. وبالرغم من صعوبة الحوار بين "فتح" و"حماس"، وبين فصائل المقاومة والسلطة الوطنية إلا أن العملية الأخيرة بهجوم فصيل من فصائل المقاومة على موقع عسكري إسرائيلي بالرغم من الحائط العازل ومراكز الإنذار الإليكتروني والعربات المصفحة والدبابات رفعت الروح المعنوية للفلسطينيين الذين كانوا على مشارف الاقتتال فيما بينهم، وتجاوز الخط الأحمر. وأصبحت المقاومة الفلسطينية في موقف قوة وليست في موقف ضعف. تقتل جنود الاحتلال المحصنين (لا يقاتلونكم جميعاً إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر). وترفض إسرائيل أن تقوم بتبادل الأسرى الفلسطينيين من النساء والأطفال مع الأسير الإسرائيلي. وتتزايد أعداد الأسرى يوماً بعد يوم بما ذكر عن احتمال أسر جندي آخر في الضفة الغربية بعد أن بدأت إسرائيل بشن حملتها العسكرية الواسعة لاحتلال القطاع. والمقاومة تنتظرها بالسواتر الترابية والحفر والصواريخ في الأزقة والشوارع. ويستعيدون حرب أكتوبر، الجندي في مواجهة الدبابة. وكما عجزت آلة الحرب الجهنمية الأميركية على البقاء في فيتنام والعراق فإن حليفتها إسرائيل بما لديها من أعلى نوعيات السلاح الأرضي والجوي والبحري ستغرق أيضاً في رمال غزة. وقد كان جيفارا يطالب بخلق أكثر من بؤرة ثورية تقاوم قوات الغزو الأميركي حتى تتبعثر وتتشتت أمام ضربات المقاومة في كل مكان. ويتحرك الشارع العربي بهذا الخيط الضئيل من الأمل ليسترد عافيته وينفض عنه غبار السكون والقعود على مدى نصف قرن، يأخذ مصيره بيده ويدافع عن كرامته ويتصدى بنفسه لأعدائه والمتربصين به. سيظل هذا الجدل العاطفي قائماً عند العرب، جدل اليأس والأمل حتى يتقلص اليأس ويزداد الأمل، ويخرج الشعب العربي من قبو التاريخ ويعود إلى مساره من جديد. عجلة التاريخ تدور بقانونه الخاص وتفاعل إرادات الشعوب معه. ولا يتوقف مساره بل يبطؤ فقط إذا وقفت الشعوب متفرجة عليه دون أن تتفاعل معه. (ويقولون متى هو، قل عسى أن يكون قريباً).