ذات مرة قال "لويس برانديز" قاضي المحكمة العليا الأميركية, "إن حق الإنسان في أن يترك لحال سبيله, لهو الحق الذي يثمنه ويتمسك به أكثر الناس تحضراً وثقافة". غير أن هذا الحق يبدو الآن في مواجهة تعدٍّ جديد عليه في عالم يجري فيه تسجيل المعلومات الشخصية عن الأفراد رقمياً وإلكترونياً, ما يذلل إمكانية حصول القراصنة الإلكترونيين عليها بكل سهولة, أو عن طريق الحصول على الكمبيوتر المحمول لشخص ما. ويكاد لا يمر يوم واحد, دون أن تنشر الصحف الأميركية قصة شخص ما تعرض لسرقة معلوماته وبياناته الشخصية من قبل اللصوص والمجرمين, أو جرى الاعتداء عليها من قبل محققين ومسؤولين حكوميين في إطار ملاحقتهم للعناصر الإرهابية. والحال هكذا, فما هي آفاق حماية الخصوصية في عصرنا الرقمي؟ لعل المرجح أن تسوء هذه الآفاق قبل أن تتحسن في نهاية الأمر, على حد تقديرات بعض الخبراء. وإلى أن يتحقق ذلك تساعد التشريعات الخاصة بهذا الأمر والمطبقة داخل كل ولاية في تخفيف التعديات على خصوصية الأفراد في هذه المرحلة على الأقل. أما على مستوى التشريعات الفيدرالية, فإن من المتوقع أن ينظر الكونجرس قريباً جداً في مسودة قانون فيدرالي لحماية الخصوصية, على رغم اعتقاد المستثمرين في القطاع الإلكتروني باحتمال إضعاف القوانين الفيدرالية لخصوصية الأفراد بدلاً من تعزيز حمايتها وصونها من الاعتداء. ولكن قال هؤلاء إن الأمر كله يتوقف على الكيفية التي تصاغ بها هذه القوانين, والكلمات المحددة المستخدمة فيها. ومن رأي معلقين ومراقبين آخرين, أن الوقت لا يزال بعيداً كي ينظر الكونجرس إلى قوانين حماية الخصوصية. فما أن يأتي الدور على هذا الموضوع, حتى تبرز أزمة تسويف الكونجرس وإبطائه في إصدار التشريعات. وهذا هو ما يتفق معه "روبرت جيلمان" مستشار سياسات الخصوصية والمعلومات الشخصية في واشنطن, علماً بأنه عمل مدة ما يقارب العقدين من الزمان, مساعداً للكونجرس في شؤون الخصوصية. فمن رأيه أن كل الأشياء الخلاقة التي جرى ابتكارها خلال المدة الماضية, ذات طابع محلي فقط. ومنذ شهر فبراير من العام الماضي, وهو التاريخ الذي أعلنت فيه شركة "تشويز بوينت" لجمع المعلومات, عن سرقة البيانات الشخصية والمالية الخاصة بـ163 ألفاً من عملائها, تعرضت معلومات ما لا يقل عن 88 مليون مواطن أميركي–سواء كانت تلك المعلومات لدى الدوائر والوحدات الحكومية أم بحوزة الشركات والمؤسسات الخاصة- إلى احتمال سرقتها والقرصنة عليها، ذلك هو ما أعلنته "دار مقاصة حقوق الخصوصية" بسان دييغو. وقد حدثت هذه القرصنة بعدة أشكال وطرق مختلفة على قواعد البيانات بالقطاعين الخاص والحكومي, كما سبقت الإشارة. وفي حادثة شهيرة توسعت وسائل الإعلام في نشرها, جرت سرقة أرقام الضمان الاجتماعي وغيرها من البيانات الشخصية الخاصة بـ28 مليون مواطن أميركي, من منزل أحد الموظفين الحكوميين في شهر مايو الماضي. وفي مثال آخر شبيه فقدت شركة "هوتلز دوت كوم" السجلات الشخصية الخاصة بـ243 ألفاً من عملائها في حادثة سرقة كمبيوتر محمول من أحد موظفيها. وهكذا تتتالى السرقات التي كان آخرها وأحدثها إعلان وزارة الزراعة الأميركية قبل بضعة أيام عن نجاح أحد القراصنة في اختراق نظامها الإلكتروني والاستيلاء على أرقام الضمان الشخصي والصور الفوتوغرافية لـ26 ألفاً من موظفيها ومورديها. وفوق ذلك كله تثار تساؤلات جديدة اليوم عن تسليط "العين الحكومية" على البيانات والمعلومات الخاصة بالأفراد على نحو غير مسبوق في التاريخ الأميركي. فقد كشف تحقيق صحفي أجرته وكالة "أسوشيتد بريس" مؤخراً, أن الأجهزة القانونية والأمنية داخل الولايات والفيدرالية على حد سواء, تراقب على نحو منتظم المكالمات الهاتفية للأفراد, دون الحصول على إذن قضائي بذلك. ولكي لا يقع العاملون في الأجهزة المعنية تحت طائلة القانون مباشرة, فهم يلجأون إلى توظيف وسطاء معلومات خاصة, يستخدمون وسائل خداعية مشبوهة في الحصول على ما يريدونه من معلومات. وضمن ذلك تعرضت وكالة الأمن القومي لانتقادات حادة وعنيفة بسبب تنصتها على المكالمات الهاتفية الخاصة دون إذن قانوني. وفي مقال صحفي نشرته مجلة "سالون" الإلكترونية في الأسبوع الماضي, قال اثنان من الموظفين السابقين بالوكالة, إن هناك غرفة سرية في مبنى الوكالة, ربما تكون هي التي تستخدم لأغراض التجسس على المكالمات الهاتفية الخاصة. وفي يوم الاثنين الماضي, انتقد كل من الرئيس بوش ونائبه ديك تشيني صحيفة "نيويورك تايمز" بسبب كشفها عن برنامج سري تجسسي حكومي, يستخدم في رصد المعاملات المصرفية للمواطنين الأميركيين مع البنوك الأجنبية. ووصف كلاهما ذلك البرنامج بالقانونية وبالأهمية الفائقة في الحرب المعلنة على الإرهاب. إلى هنا يرى البعض أن الكونجرس ليس على استعداد بعد لاقتفاء أثر السياسات الحكومية فيما يزعم أن له علاقة بحماية الأمن والمصالح القومية للأميركيين. والشاهد أن الكونجرس إنما يبدي حماساً واستعداداً لتوفير الحماية اللازمة ضد خطر المجرمين العاديين وليس الإرهابيين. لكن من الناحية الأخرى, يبدي رجال الأعمال ضيقاً وتبرماً من قوانين الخصوصية التي أصبح لزاماً عليهم معرفتها وتطبيقها, علماً بأنها تتفاوت وتتباين بين ولاية وأخرى. ولذلك يفضل المستثمرون الاحتكام إلى قوانين ومعايير فيدرالية موحدة. ومن هنا فإن من المرجح أن تحظى مسودة "قانون الخصوصية الفيدرالي" المقدمة من "جو بارتون", العضو "الجمهوري" بتأييد واسع النطاق لكونها تحمل الكثير من سمات القوانين المطبقة داخل بعض الولايات. جورج إم لامب ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كاتب أميركي متخصص في الشؤون العلمية ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "كريستيان ساينس مونيتور"