من الوضع الأمني المتدهور في أفغانستان والصومال، ومروراً بالاضطرابات التي تجتاح منطقة الشرق الأوسط وانتهاء بنذر المواجهة مع إيران والعلاقات المتوترة مع روسيا يبدو أن البيت الأبيض دخل فجأة غمار أزمات متعددة في وقت واحد. وقد جاءت تجربة الصاروخ بعيد المدى الذي أطلقته كوريا الشمالية يوم الثلاثاء الماضي، رغم فشلها، لتسلط الضوء على مدى تأزم السياسة الخارجية الأميركية التي لم تعد منحصرة في العراق، بل تعدتها إلى تخوم آسيا البعيدة. وبحسب الخبراء في السياسة الخارجية الأميركية يضاف إلى تلك المشاكل العلاقات مع روسيا وابتعادها عن نزع سلاحها النووي ما يجعلها حاضرة بقوة في قائمة الأزمات التي تهدد بتعكير أجواء الشهور الأخيرة المتبقية من إدارة الرئيس بوش. وفي هذا السياق علق "ريتشارد هاس"، المسؤول السابق في إدارة بوش ورئيس مجلس العلاقات الخارجية قائلاً "لا تحضرني أية لحظة في الماضي مررنا فيها بكل هذا الكم من التحديات في وقت واحد كما نمر به اليوم"، مضيفاً بأن الخطر يكمن في "التركة التي سيخلفها الرئيس بوش لمن سيأتي بعده، إذ عليه أن يواجه عالماً أكثر اضطراباً من ذي قبل وبموارد أكثر شحاً لتسوية مشاكله والتعامل معها". ومع ذلك يرفض المسؤولون في البيت الأبيض النبرة المتشائمة التي تطبع تحليلات الخبراء في العلاقات الخارجية، حيث ينظر المسؤولون إلى فشل كوريا الشمالية في إطلاق الصواريخ على أنها فرصة جديدة لتعزيز دور الدبلوماسية الأميركية. لكن ما يغفله هؤلاء المسؤولون هو فقدان الولايات المتحدة المبادرة التي اكتسبتها في مجال العلاقات الخارجية عقب الحرب على العراق ما يهدد بتقويض تطلعات بوش بدعم الديمقراطية في العالم ويجعل طموحاته في مهب الريح. والأكثر من ذلك تكشف الأحداث الأخيرة على الساحة الدولية الإكراهات التي تواجهها أميركا في التعاطي مع الأزمات العالمية بسبب استنزاف موارد هائلة في العراق وما صاحب ذلك من تراجع الدعم الدولي للمشروع الأميركي الشيء الذي يحد من مرونة الإدارة الأميركية ويقيد حركتها. ويعبر عن هذا المأزق الذي يتخبط فيه البيت الأبيض حاليا موسي نييم، محرر مجلة "السياسة الخارجية" في حديث قال فيه "هذه إدارة شتت تركيزها على أكثر من جهة في وقت واحد، فضلا ًعن أن طاقتها استنزفت كلياً في الحرب على العراق". من ناحيته اعتبر "ستفين هادلي" مستشار الرئيس بوش للأمن القومي، في حوار أجري معه، أن الانتقادات الموجهة إلى الإدارة هي في غير محلها، مؤكداً أن النصر في العراق ضروري لحسم المعركة ضد الإرهاب وبناء ديمقراطية جديرة بالاحتذاء في سائر بلدان الشرق الأوسط. وهو يشدد على ذلك بقوله "إن تحقيق النصر في العراق استثمار مهم جداً، إذ رغم التحديات الكبيرة فإن الجائزة تستحق العناء، لكن الفشل ينذر بأوخم العواقب". ومع أن "هادلي" يقر بجسامة الرهانات المطروحة أمام الإدارة الأميركية، فإنه يضيف قائلاً "كل الأقدار كانت تشير إلى ذلك في ظل رئيس يريد أن يتعامل مع القضايا العويصة في العالم والسعي إلى حلها خلال فترته". ولم تمنع الأجواء التي سادت العالم بعد أحداث 11 سبتمبر والإجماع الدولي على محاربة الإرهاب والقضاء عليه من بروز مجموعة من المشاكل الخارجية المستعصية التي بدأت تنتشر في العديد من مناطق العالم. ومن ذلك مثلا اتساع دائرة العنف في المدن الرئيسية بأفغانستان بعد استلهام المتمردين الأفغان تكتيكات المسلحين في العراق في وقت بدأت فيه شعبية الرئيس حامد كرزاي تنحدر لتصل إلى الحضيض. أما إيران فمازالت ممعنة في تحديها برفضها التخلي عن برنامجها النووي، أو الموافقة على رزمة الحوافز الأوروبية. ولا يختلف الوضع كثيراً في الأراضي الفلسطينية الذي شهدت تدهوراً خطيراً في الأيام الأخيرة بعدما نجحت الفصائل الفلسطينية في إطلاق صاروخ أبعد مدى من ذي قبل على إسرائيل وقامت هذه الأخيرة باجتياح قطاع غزة وإعادة احتلال أجزاء منه. وفي الصومال تمكنت الميلشيات الإسلامية من السيطرة على العاصمة. وحتى بعيداً عن الصومال وتحديداً في المكسيك لم تتضح معالم المستقبل بعد حملة انتخابية متقاربة النتائج، يرجح أن فيليب كالديرون المحافظ قد فاز بها. وكأن ذلك لا يكفي ارتفعت أسعار النفط إلى رقم قياسي أمس بحوالي 75.19 دولار للبرميل الواحد. وتقاطعت مخاوف المراقبين بين "المحافظين الواقعيين" مثل ريتشارد هاس و"الليبراليين الدوليين" مثل وزيرة الخارجية السابقة مادلين أولبرايت التي وصفت المشاكل التي تواجهها الولايات المتحدة على الصعيد الخارجي "بالعاصفة المثالية"، مضيفة بأن الإدارة الأميركية "أغفلت العديد من الأمور. وإذا كانت أفغانستان قد خرجت عن السيطرة فذلك راجع إلى الاهتمام غير الكافي بها". وحتى "الصقور" من "المحافظين الجدد" الذين أيدوا سياسة بوش في العراق أو في قضايا عالمية أخرى، عبروا عن قلقهم إزاء السياسة الخارجية الأميركية، مفصحين عن أملهم في أن تواجه إدارة بوش التحدي الأخير الصادر عن كوريا الشمالية بحزم أكبر. وفي هذا الإطار يقول "ويليام كريستول"، محرر مجلة "ويكلي ستاندار" والمعلق البارز المحسوب على "المحافظين": "كوريا الشمالية تطلق الصواريخ وإيران تسعى إلى امتلاك السلاح النووي والصومال يسيطر عليه إسلاميون راديكاليون والعراق ينحدر إلى الأسفل بينما الأوضاع في أفغانستان تسوء أكثر، ورغم تقديري للرئيس بوش بشأن سياساته الصارمة في العراق، فإني قلق من أن الإدارة أصبحت أقل انتباهاً إلى القضايا الأخرى". ومع ذلك هناك من يرى في التحديات التي تواجهها السياسة الخارجية الأميركية فرصة لتجديد الدبلوماسية الأميركية، إذا ينظر العديد من الخبراء إلى إطلاق كوريا الشمالية للصواريخ سانحة لتعزيز موقف الولايات المتحدة لإقناعها الصين بلجم بيونج يانج. وبينما يتفق السياسيون في الحزبين "الديمقراطي" و"الجمهوري" على قدرة أميركا على التعاطي مع أزمات متعددة في وقت واحد، يتساءل البعض الآخر عن فعالية الولايات المتحدة في القيام بذلك دون تكلفة عالية. مايكل أراموفيتز وروبن رايت ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ محررا الشؤون الخارجية في صحيفة "واشنطن بوست" ينشر بترتيب خاص مع خدمة " لوس أنجلوس تايمز واشنطن بوست"