أسارع إلى إزالة أي غموض حول العنوان، فأقول: إن السنهوري هو الفقيه القانوني المصري الكبير، الذي تلقى تعليمه القانوني في جامعة السوربون الفرنسية وعاد إلى مصر خلال السنوات الأولى من القرن العشرين، ليصبح أحد أساطين الفكر القانوني والدستوري خلال النصف الأول من ذلك القرن سواء في العهد الملكي أو بعد قيام ثورة 23 يوليو 1952. أما آلاء فهي تلميذة بإحدى القرى المصرية في أيامنا هذه، وقد اكتسبت شهرة كبيرة في الصحف وقنوات التلفزيون بعد أن كتبت موضوع التعبير أو الإنشاء في الامتحان. الشهرة التي حققتها آلاء توجت باتصال تليفوني من جانب الرئيس محمد حسني مبارك طمأن فيه التلميذة على حقوقها في حرية التعبير. مشكلة آلاء بدأت عندما أصيب المدرس الذي قام بتصحيح ورقة الامتحان بالفزع، عندما لاحظ أن التلميذة قد وجهت في إجابتها نقداً للرئيس الأميركي جورج بوش وللحكومة المصرية أيضاً. كان في مقدور المدرس أن يعاقب التلميذة على الخطأ الذي ارتكبته من وجهة نظره، بالخروج عن موضوع السؤال المطروح عليها في الامتحان، بتخفيض درجاتها. غير أن العقلية الحاكمة للمدرس دفعته إلى رفع ورقة الإجابة إلى حضرة ناظر أو مدير المدرسة، الذي قرر بدوره رفعها إلى وكيل الوزارة ومدير الإدارة التعليمية بالمحافظة التي تتبعها مدرسة آلاء. وجاءت النتيجة قاسية بحرمان التلميذة من حقها في التصحيح العادل لورقة الإجابة بل وحرمانها من دخول امتحان العام المقبل كذلك. المسألة شهدت جدلاً ساخناً في كل مكان من مصر، وأصبح السؤال المطروح هو: أي نوع من العقليات نريد لمدارسنا أن تخرّج، هل هي العقول الصماء التي تقوم على حفظ المعلومات المقررة وسكبها في ورقة الامتحان؟ أم هي العقليات التحليلية القائمة على التفكير والنقد؟ أضيف إلى هذا السؤال الرئيس سؤالاً فرعياً يتعلق بنوع التصرف المطلوب إزاء التلميذ الذي يخرج في ألفاظه بورقة الامتحان عن حدود التعبير المهذب، هل نعاقبه بقسوة أم نعلمه كيف يعبر عن رأيه بألفاظ تراعي الاحتشام والتهذيب؟ إن مجموع هذه الأسئلة التي طرحت بشدة وأصبحت محل جدل واسع، تجسّد قضية كبرى في نظم التعليم والامتحانات بالمدرسة العربية عامة، وليس المصرية فحسب. لقد جاء تدخل رئيس الجمهورية ليرفع عن التلميذة آلاء العقوبات التي قررتها وزارة التربية والتعليم، وليعطي انطباعاً بأن الغاية التي يجب أن يتوخاها النظام التعليمي للتلاميذ الصغار، هي بناء عقلية إبداعية تحليلية تتمتع بالحق في التفكير الخلاق والنقدي، مع مراعاة حدود الآداب في أساليب التعبير. وفي تقديري أن إرساء حقوق جيل التلميذة آلاء في مطلع القرن الحادي والعشرين، يدعونا إلى التفكير حول المشاكل التي تراكمت في نظمنا التعليمية على مدى قرن كامل، لتحاصر عقول تلاميذنا بالقوالب المحفوظة وتقيد ملكاتهم في الحلم والتفكير النقدي للواقع، والانطلاق إلى آفاق الإبداع. إن استدعاء التلميذ عبدالرازق السنهوري في هذا المقال ليس استدعاءً اعتباطياً، بل إنني أقصد به إظهار نوع العقلية التي كان ينتجها نظامنا التعليمي في مطلع القرن العشرين. لقد ظلت ملاحظات التلميذ السنهوري النقدية على واقع حياة مصر تتراكم في كراساته المدرسية بمدارس مصر، حتى وصل إلى مشارف المرحلة الجامعية. ومن واقع هذه الملاحظات المتراكمة سجل لنفسه خطة عمل شخصية متصلة بتطوير الواقع في مذكراته. إن مراجعة هذه الخطة تشير إلى نوع العقلية التي ينتجها نظام تعليمي يسمح للتلميذ بالتفكير النقدي التحليلي دون حجر. لقد كان السنهوري التلميذ يحلم بالعثور على طريقة جديدة لدراسة الشريعة الإسلامية ومقارنتها بالشرائع الأخرى، حتى يتيسر فتح باب الاجتهاد -على حد تعبيره- في تلك الشريعة الغراء، وكان يحلم بتطوير فكرة الجامعة الإسلامية، وكان يحلم بالمشاركة في نهضة لإصلاح طرق التربية والتعليم وإصلاح تربية المرأة وحالتها الاجتماعية، بل وكان يحلم بالمشاركة في إصلاح طرق تعليم اللغة العربية وإحياء العلوم وإصلاح الاقتصاد والإسهام في إصلاح الفكر القانوني بما يحقق سيادة الأمة. إن هذه الأحلام لدى التلميذ عبدالرازق السنهوري، جاءت نتاجاً لنظام تعليمي يشجع النقد والتحليل والأحلام. فهل تكون قضية التلميذة آلاء مناسبة عربية لاستعادة روح ذلك النظام النقدي.