سواء أكانت الهجمة العسكرية الإسرائيلية المتواصلة ضد قطاع غزة، هدفها إسقاط السلطة الوطنية الفلسطينية، أو تدمير البنية الاقتصادية للشعب الفلسطيني وإنهاكه، أو إعادة احتلال القطاع ومحاولة إخضاعه... فإن قرار رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية محمود عباس أبومازن بتجميد إجراء الاستفتاء على "وثيقة الأسرى"، والذي أعلن يوم الأربعاء الماضي، لم يكن باعثه التجاوب مع اتفاق "الوفاق الوطني" الموقع منذ أيام في غزة فحسب، ولكن أيضاً لأن الاستفتاء لم يعد ممكناً من الناحية العملية في ظل العدوان الإسرائيلي على القطاع، والذي أصبح الآن خاضعاً لحصار كامل وإغلاق محكم، بما في ذلك مدينة غزة، حيث مقر الرئاسة الفلسطينية. فلدى انطلاق الآلة العسكرية الإسرائيلية مجدداً باتجاه غزة، كان عباس هناك لمتابعة الحوارات بين القوى الفلسطينية حول "وثيقة الأسرى" وللدفع نحو توافق وطني، إذ وصل المدينة قادماً من عمّان حيث شارك في قمة ثلاثية ضمته والعاهل الأردني ورئيس الوزراء الإسرائيلي، لكنه سرعان ما وجد نفسه في دائرة الحصار العسكري على كافة أنحاء القطاع، وقد وصل القصف الجوي الإسرائيلي قريباً من منزله، وتعرض للتدمير مبنى رئاسة الوزراء الذي لا يبعد إلا بضع عشرات من الأمتار عن مقر الرئاسة... فهل يكرر التاريخ نفسه عبر حصار إسرائيلي على أبومازن في غزة، كذلك الذي فرض على ياسر عرفات في رام الله، حتى قبيل وفاته بأيام قليلة! ثمة من التباين بين عرفات وظروف مرحلته من جهة، وبين عباس وظروف اللحظة الراهنة، من جهة أخرى، ما قد يترتب عليه الكثير؛ فعباس لازال شريكاً في نظر الأميركيين والإسرائيليين، خلافاً لسلفه الذي أسقطت عنه تلك الصفة. أما العداء الذي كان يوصف بـ"المستحكم" بين عرفات وأرييل شارون في حينه، فلا يوجد ما يماثله بين عباس وإيهود أولمرت الذي وصف الرئيس الفلسطيني أخيراً بأنه "شريك مخلص". لقد ارتبطت الضغوط الإسرائيلية والأميركية لتقليص حجم عرفات وتجميد صلاحياته، بضغط موازٍ لإصلاح السلطة الوطنية، بما في ذلك استحداث منصب رئيس الوزراء الذي أسند (مارس 2003) لعباس بوصفه شخصية براجماتية تحظى بقبول غربي. لكن الخلاف تفاقم بين أبوعمار وأبومازن على توزيع النفوذ والصلاحيات، وهدد الأخير بالاستقالة إذا لم تتوفر له صلاحيات رئيس الوزراء، ثم استقال فعلياً من منصبه في سبتمبر من العام ذاته، ودخل في قطيعة مع الزعيم التاريخي لم تنتهِ إلا حين زار مقر المقاطعة في رام الله للاطمئنان على صحة الرئيس قبيل نقله إلى فرنسا للعلاج! وتعود العلاقة بين عباس وعرفات إلى مطلع الستينيات من القرن الماضي، فعباس الذي ولد في صفد عام 1935 حين كانت فلسطين لا تزال تحت الانتداب البريطاني، ولجأ مع عائلته عقب النكبة إلى سوريا حيث درس وتخرج بشهادة في القانون، ثم انتقل إلى قطر ليعمل مديراً لشؤون الأفراد في إدارة الخدمة المدنية... اتصل من هناك بعرفات وأسسا حركة "فتح"، وكان عباس عضواً في لجنتها المركزية الأولى، فحظي بالاحترام لبساطة عيشه ونظافة سجله، وساهم في تجنيد مجموعة من الفلسطينيين أصبحوا فيما بعد شخصيات رئيسية في منظمة التحرير الفلسطينية، ثم التحق بعرفات في المنفى حيث تواجدت المنظمة في الأردن ولبنان وتونس، حتى عودته إلى غزة في يوليو 1995. وخلال ذلك بقي أبومازن خلف الكواليس ولم يحظ بتغطية إعلامية كبيرة، لكنه أقام شبكة اتصالات قوية مع قيادات عربية وأجهزة استخبارات مختلفة، ونجح في جمع التبرعات لمنظمة التحرير. وإن لم يكن أبومازن، والذي هو أحد مؤسسي "فتح" الأحياء القلائل، خطيباً مفوهاً أو صاحب شخصية كاريزمية مؤثرة، فإنه سياسي محنك ومثقف عقلاني واسع الاطلاع؛ فقد نال شهادة الماجستير في الحقوق من جامعة القاهرة، وبعدها حصل من روسيا في مطلع السبعينيات على شهادة الدكتوراه عن أطروحة عنوانها "العلاقة بين قادة النازية وقادة الحركة الصهيونية"، وصدرت له كتب وعدة أبحاث فيما بعد. وينظر إلى عباس على أنه "شخصية معتدلة"، إذ كان من القيادات الفلسطينية التي أجرت لقاءات مع الجانب الإسرائيلي في السبعينيات، وتولى هندسة اتفاق "أوسلو" مع شيمون بيريز، ورافق عرفات إلى البيت الأبيض لتوقيع الاتفاق عام 1993، وقاد مفاوضات "غزة- أريحا" في القاهرة، وعرف بدعواته لمنع "عسكرة الانتفاضة"، وبانزعاجه من العمليات التفجيرية وإطلاق الصواريخ، ما أثار على الدوام استياء الفصائل الفلسطينية بما فيها "فتح". وفيما يرى البعض فإن الحملة الإسرائيلية الحالية "أمطار الصيف"، تثبت ما لعباس من بصيرة وفهم عميق؛ إذ وجه عقب اختطاف الجندي الإسرائيلي على أيدي مقاومين فلسطينيين، تحذيراً إلى قادة "حماس" من أن إسرائيل تريد رؤوسهم! لكن ذلك لم يمنعه من مرافقة إسماعيل هنية لتفقد الدمار الذي ألحقه القصف الإسرائيلي بمبنى رئاسة الوزراء، وهناك وصف ما حدث بأنه "عمل إجرامي حقيقي". حين توفي عرفات، كان عباس أميناً لسر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية منذ عام 1996، وبالتالي فهو الرجل الثاني في القيادة الفلسطينية، فتولى خلافته في رئاسة المنظمة، وأصبح مرشحها لرئاسة السلطة في انتخابات نوفمبر 2004. ورغم الخشية من انعكاسات ما لمطالبته حينئذ بـ"نبذ العنف لما يلحقه من أذى بالقضية الفلسطينية"، فقد فاز بنسبة 62.5% من أصوات الناخبين. ورغم تحول الموقف الأميركي من إجراء الانتخابات الفلسطينية، فقد أعلن عباس أنها "لن تتأجل إلا إذا مت أو قتلت"، فجاء الفوز الكاسح لحركة "حماس" في جو من الضغط الداخلي والحصار الخارجي، لم يكن فيه من عباس إلا أن التقط "وثيقة الأسرى" ليطرحها على الرأي العام الفلسطيني كمخرج من الأزمة، وكان مقرراً لها أن تعرض على الاستفتاء في الـ26 من الجاري، لولا الوصول إلى توافق وطني حولها، وأيضاً لولا الحملة العسكرية الإسرائيلية ضد غزة... فهل كانت الوثيقة آخر ورقة في جيب الخيارات الفلسطينية وسط أفق تسده نذر الوعيد الإسرائيلي؟! محمد ولد المنى