في عام 2003, مضت الولايات المتحدة الأميركية إلى غزو العراق وإسقاط نظام صدام حسين, قبل إكمال مهمة إعادة البناء التي بدأتها في أفغانستان. وكان لهذا الانحراف الكبير بالموارد العسكرية والاستخباراتية والدبلوماسية من هدف إلى هدف آخر مختلف جداً, أثره السلبي، ليس على ما بدأته أميركا في أفغانستان فحسب, وإنما على انحسار الدعم والاحترام الدوليين الذين حظيت بهما أميركا إثر تعرضها لهجمات الحادي عشر من سبتمبر. والنتيجة الطبيعية لذلك أن القوات الأميركية وقوات حلف "الناتو" تقاتلان اليوم فلول وعناصر التمرد الطالباني, في وقت تمر فيه الذكرى السنوية الخامسة لهجمات سبتمبر على أراضيها. والنتيجة أيضاً أن زعماء وقادة إرهابيين مثل الملا محمد عمر، ظلوا طلقاء يمارسون تأثيرهم القوي على أنصارهم ومؤيديهم, بينما لا يفتأ أسامة بن لادن يطل عبر شاشة التلفزيون وأشرطة الكاسيت بانتظام، كي يشحذ همة مقاتليه وينفث سمومه وتهديداته المتكررة للغرب! على أن هذا لا ينفي أن أفغانستان قطعت خطوات تاريخية كبيرة باتجاه التحول الديمقراطي. ويحسب لرئيسها حامد قرضاي أنه لا يألو جهداً في توحيد بلاده. يضاف إلى ذلك كله أنه ما من سبيل لمقارنة التمرد الذي تشهده أفغانستان بموجة التمرد والعنف التي تعصف الآن بالعراق كله. لكن مع ذلك فما أبعد أفغانستان اليوم عن أن تكون ذلك النموذج الساطع لديمقراطية العالم الإسلامي الذي وعد به كل من جورج بوش وحليفه البريطاني توني بلير لحظة شن الحرب. ومع إحكام قبضة أمراء الحرب والمخدرات قبضتهم على مفاصل الحياة الأفغانية, وبفعل الثغرات الأمنية الكبيرة على الحدود المشتركة بينها وبين باكستان, فقد تحولت أفغانستان إلى جبهة منسية في الحرب الدائرة على الإرهاب الدولي. يذكر أن كوندوليزا رايس وزيرة الخارجية الأميركية قد زارت كابول في الثامن والعشرين من شهر يونيو المنصرم, كي تؤكد استمرار التزام بلادها بالمهمة التي بدأتها في أفغانستان. غير أني كنت في العاصمة الأفغانية نفسها الأسبوع الماضي, إلى جانب زيارتي لكل من محافظتي قندهار وهلمند الجنوبيتين. وما سمعته على لسان المتحدثين هناك من مسؤولين عسكريين وساسة ودبلوماسيين وموظفي إغاثة ومساعدات إنسانية، هو ما يلي بالحرف الواحد: خلافاً لما عليه حال العراق, فإنه يمكن الفوز هنا بمهمة إعادة البناء والتعمير والتحول الديمقراطي, غير أن الالتزام الأميركي وحده لا يكفي لهذه المهمة. وفي الأسبوع الماضي كانت واشنطن قد شهدت جدلاً ثنائياً حزبياً حاداً ومحتدماً, على خلفية مقترحات ديمقراطية بتحديد جدول زمني واضح للانسحاب العسكري من العراق. ورغم أن الجنرال جورج دبليو كيسي القائد الأعلى للقوات الأميركية في العراق, يعكف الآن على وضع خطة من هذا القبيل, فإن الجمهوريين لم يتوانوا عن رجم خصومهم الديمقراطيين ورميهم بتهمة التراخي والتهاون في خوض الحرب على الإرهاب، كما دأبوا دائماً. وعليه فإنه يلزم الديمقراطيين محاولة اللجوء إلى استراتيجية أخرى مغايرة في مواجهتهم للجمهوريين. فبدلاً من المناداة بسحب القوات من العراق, يمكنهم مثلاً الدعوة إلى نقل القوات المرابطة حالياً في العراق إلى أفغانستان. والحقيقة التي لا مراء فيها هي أن القوات الأميركية لم تعد ذات دور حاسم في ضمان استتباب الأمن في العراق. ذلك أن السبيل الوحيد لتحقيق هذا الهدف هو سياسي أكثر من كونه عسكري, لأنه يعتمد على مدى التزام المسلمين الشيعة والسُّنة معاً بمشاركة السلطة واقتسامها. خلافاً لهذا الوضع تماماً, فإن قواتنا لا تزال تقع عليها مهمة حاسمة في أفغانستان. والحقيقة أيضاً أن الأفغان أقل عداءً لقواتنا من العراقيين. أما البريطانيون الذين يتوقع لهم تولي قيادة مهمة حلف "الناتو" هناك خلال الشهر المقبل, فهم في أمس الحاجة إلى قوات مقاتلة ودعم جوي حتى يتسنى لهم إلحاق الهزيمة النهائية الحاسمة بقوات "طالبان". ومن خلال الضغط باتجاه نقل المهمة العسكرية الحالية في العراق إلى أفغانستان, يستطيع الديمقراطيون صد باب الهجوم الجمهوري عليهم ورميهم المتكرر بالضعف والتراخي الأمنيين. وفي وسع الديمقراطيين أن يدفعوا بحجة أن اقتراحهم ليس له علاقة بأي دعوة للانسحاب من معركة مواجهة الإرهاب, بقدر ما ينادي بإعادة نشر قواتنا في جبهة لا تقل أهمية, حيث تستطيع القيادة الأميركية أن تحقق نتائج جد مغايرة بإحرازها انتصاراً طويل الأمد في أفغانستان. وملخص الفكرة هنا أنه لا يزال في وسع الديمقراطيين الدفاع عن هدفهم المتمثل في تصحيح الانحراف المبكر الذي طرأ على المهمة الأميركية في أفغانستان, جراء غزوها للعراق. وفي الحد الأدنى لما يمكن أن يناله الديمقراطيون من تمسكهم بموقف كهذا, فضحهم وإظهارهم عجز إدارة بوش عن استكمال مهمتها التي بدأتها في أفغانستان. هذا ويدرك الأميركيون أن العراق قد تحول إلى حقل استنزاف لمواردنا وسمعتنا, غير أنهم يبدون قلقاً كبيراً وتردداً إزاء التسليم بالحقيقة ووضع حد لهذا الاستنزاف. على صعيد آخر وطالما أن هجمات 11 سبتمبر قد انطلقت ضد أراضي بلادنا من أفغانستان, فما أسهل الحفاظ على الدعم الداخلي والدولي لهذه المهمة لأطول فترة زمنية ممكنة, حتى يتحقق النصر النهائي على قوات "طالبان" وتنظيم "القاعدة". وعن طريق الدمج والمزاوجة ما بين السياسة والسياسات الرشيدة, يستطيع الديمقراطيون دعم الحرب على الإرهاب, وتعزيز موقفهم كحزب منافس في ذات الوقت. جيمس روبن ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مساعد سابق لوزير الخارجية الأميركي ومحلل سياسي بشبكة "سكاي نيوز" ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"