شعرت بنشوة بالغة حين تآلف العرب جميعاً تحت راية الجامعة العربية في وفد واحد مضى إلى الصين أواخر شهر يوليو الماضي ليقيم مهرجان الفنون العربية في الصين، وليشارك في المائدة المستديرة للحوار العربي- الصيني، وقد ضم وفدنا العربي عدداً من وزراء الثقافة العرب (السودان، العراق، الأردن، فلسطين، وسوريا)، إضافة مسؤولين سامين من وزارات الثقافة العربية في بقية بلداننا. وكان ممتعاً أن ينصهر الجميع في بوتقة الثقافة العربية الواحدة، وأن يتفاعل الجميع مع نظرة أهل الصين لنا بوصفنا أمة واحدة، فلم يكن المسؤولون الصينيون أو مرافقونا، يميزون بين سوري وعراقي أو بين فلسطيني وأردني، ولم نكن نحن كذلك نشعر بأي فارق قطري لأن الثقافة التي نحمل رايتها وشعارها هي ثقافة واحدة، لغة وسلوكاً ومعتقداً واتساعاً رحباً للمختلف حوله بوصفه نتاج حراك فكري هو سمة أساسية للثقافة العربية عبر العصور. ولقد قلت بدعابة لأصدقائي وزراء الثقافة العرب (وقد نمت بيننا صداقات عميقة): لقد وحدتنا الصين، فها نحن هنا نجلس إلى مائدة الحوار العربي- الصيني لنمثل جهة واحدة هي الثقافة العربية، ولنوضح قضيتنا الواحدة، ولنقدم رؤية متشابهة وموقفاً موحداً من القضايا العالمية، وها نحن هنا جميعاً يتحدث باسمنا وزير الثقافة السوداني، لكون السودان ترأس القمة العربية هذا العام، وهؤلاء هم أهل الصين يخاطبوننا بقولهم أنتم العرب، ولو أنهم خاطبونا فرادى لشعر أحدنا بضعف موقفه وصغر حجم موطنه أمام الصين التي تكاد تشكل قارة بمساحتها الشاسعة، وبعدد سكانها الذي يتجاوز مليار نسمة. والمفارقة أن دول الغرب كذلك تخاطبنا على الصعيد الثقافي بوصفنا أمة، رغم إصرارها على تفرقتنا؛ فحين يتحدث المسؤولون في الغرب عن الحوار الثقافي أو الحضاري معنا، يجدون أنفسهم أمام وحدة حضارية عربية أو إسلامية لا يمكن تجاهلها أو القفز فوقها، فليس ممكناً أن يحاور الغرب الثقافة المصرية وحدها، أو أن يحاور الثقافة السورية أو الأردنية أو العراقية كلاً بمفردها، ولو أنه فعل لوجد نفسه يحاور الثقافة العربية كلها حين يحاور أي قطر من أقطارها، لأن مكونات هذه الثقافة متحدة اتحاداً لا فصام فيه، ولأن تجلياتها متداخلة متشابكة إلى أبعد الحدود. وقد يزيد المفارقة تألقاً أن نجد المغرب العربي، وهو الأقرب إلى الغرب ثقافياً، قد أنجز منذ أواخر القرن الماضي أعمق التجليات الفكرية للثقافة العربية، وكانت (وما تزال) الدراسة الفكرية التي تصدر من المغرب تجد أصداءها على الفور في دمشق وبيروت والقاهرة وعمان وسواها من عواصم العرب، وتتم مناقشتها بوصفها فكراً عربياً يناقش واقع ما يحدث في كل هذه العواصم العربية دون استثناء. وحين يطالبنا الغرب بمناقشة موقف من المواقف الفكرية، فإنه لا يطلب ذلك من الأقطار منفردة، وإنما يطلبه من المثقفين العرب ككل، وهم يجتمعون على صعيد واحد في كل موائد الحوار، دون أن يمنع ذلك من ظهور خلافات في الرؤى والمواقف والتصورات، لكن هذه الخلافات دليل على حيوية الثقافة وغناها، حيث لا تعني الوحدة الثقافية تطابقاً مطلقاً في الآراء، بل إن الاختلاف سنة كونية في كل الحضارات والثقافات، ولكن الوحدة الثقافية هي في ضخامة حجم المشترك ورسوخه، وهو في الثقافة العربية أوسع كثيراً مما هو عليه الحال في الثقافات الكونية الأخرى، ولاسيما في عالم الغرب حيث تشمل الفوارق اختلافاً ضخماً في اللغات والقوميات والإثنيات، وكذلك الأمر في الصين التي تضم نحو ست وخمسين قومية، ولكن الهوية الصينية الواحدة هي التي يحملها الجميع. أما القومية العربية التي باتت عند بعض المستغربين منّا، موضع ريبة وشك بدوافع خارجية، فإن سمتها الأساسية أنها قومية اللسان وليست قومية النسب (إنما العربية اللسان)، واللسان هنا دلالة فكرية وليس دلالة تعبيرية فحسب. وهذا ما جعل العربية واسعة الطيف، تنضم إليها عبر التاريخ الحضاري للأمة كوكبة ضخمة من العباقرة والمبدعين الذين قدموا إنتاجهم الثقافي في رحابها وهم ليسوا عرباً، لا في المولد ولا في النسب، لكنهم عربوا أنفسهم باللغة انتماء فكرياً. وما أظن أحداً ينكر على الثقافة العربية أنها هي التي أنجبت ابن سينا والبيروني والرازي وسيبويه والبخاري... ومن يماثلهم فكراً وثقافة، وعلى الصعيد العسكري والقيادي، لا ينكر أحد كذلك حق العرب بالاعتزاز بنور الدين الزنكي أو بصلاح الدين الأيوبي، أو بالمظفر قطز أو بالظاهر بيبرس... ومن يماثلهم ممن جسدوا حضور الأمة في سعتها الإسلامية لكل القوميات والثقافات التي انضمت إليها أو نشأت في رحابها الشاسعة. وأعود إلى حديث الصين، لأثني على نجاح الدبلوماسية العربية التي حققت في بكين ذلك التوحد الثقافي العربي، فما يحدث اليوم من تقارب كبير بين العرب وبين الصين هو نتاج جهد بذله زملاؤنا الدبلوماسيون العرب الذين قدموا أنفسهم إلى الدبلوماسية الصينية بوصفهم سفراء أمة واحدة، وكان مجلس السفراء العرب في بكين هو الذي أعلن مبادرته حول تأسيس "المنتدى العربي- الصيني" تحت راية الجامعة العربية، فحقق حوار الحضارتين العربية والصينية، ثم حقق اللقاءات الوزارية التي اجتمع فيها وزراء الخارجية العرب ثم وزراء الثقافة العرب على صعيد واحد مع الخارجية الصينية أو مع وزارة الثقافة وكبار مسؤولي الدولة في المجال الثقافي في الصين. وأحسب أن وفدنا الثقافي كان أضخم وفد عربي رسمي زار الصين على مر التاريخ، ولم يتخلف عنه قطر من الأقطار العربية، وكان من سوء الحظ أن تواجهنا ونحن في الصين ملامح الضعف العربي المهين، فقد جاءتنا أنباء العدوان الإسرائيلي على غزة، فبتنا نتفرس موقف الأمة فلا نكاد نجد صدى لما يحدث في فلسطين، في وقت كنا نباهي فيه بعظمة أمتنا التي تمتد حدودها الجغرافية ما بين محيطين هما الهندي والأطلسي، وهي في حدودها الإسلامية تمتد إلى كل بقاع الأرض، ولكنها تتابع أنباء العدوان على إحدى مدنها الأثيرة وكأن الأمر يحدث في المريخ، وإسرائيل تستهين بها وتستبيح، بل يصل بها غرور القوة وهمجيتها إلى الاعتداء على كل القيم والأعراف الدولية حين تعتقل وزراء السلطة الوطنية الفلسطينية، وتهدد بمحاكمتهم، بل توجه تهديداً بالقتل والاغتيال علناً إلى شخصيات فلسطينية يعرف العالم كله أنها تحظى بشرعية جاءت بها انتخابات ديمقراطية أشاد الغرب كله بنزاهتها! لقد أفسد عدوان إسرائيل على غزة وعلى الأرض الفلسطينية كلها، متعة إحساسنا بكوننا أمة ذات حضور قوي، فقد أعادنا الصمت العربي إلى هوة الواقع، ونحن نرى العرب عامة يتابعون ما يحدث من حصار لاإنساني لشعب فلسطين، ومن قصف يومي، ومن تهديد وترويع... فلا يملكون غير الأسى أو الأسف يقدمونه لأشقائهم وإخوتهم في فلسطين، بل إن الدبلوماسية العربية ذاتها (وهي التي تشكل في أغلب الأحيان أضعف الإيمان)، بدت الآن أضعف منها في أي وقت سابق.أليس هذا الضعف العربي، والذي لا نرى مبرراً له، هو الذي يجعل إسرائيل تتباهى بتهديداتها اليومية ضد سوريا؟ لقد قامت الدنيا ولم تقعد من أجل جندي إسرائيلي، بينما لا تحرك أمتنا عجيزتها من أجل شعب هو القلب فيها، يتعرض للقتل والقصف والتدمير! بل إننا لم نلمح مظاهر الغضب حتى في الإعلام العربي، وهو يمثل الحد الأدنى من التعبير عن مشاعر التضامن، فمتى نرى أنفسنا أمة واحدة حقاً كما يرانا الآخرون؟