ما زالت المقاومة الفلسطينية تتحمل المسؤولية الأولى عن الفشل المتواصل في إنجاز التحرر الوطني، وتحقيق هدف الدولة المستقلة. هناك مسؤوليات أخرى بطبيعة الحال تقع على عاتق المجتمع الدولي والقوى الكبرى في النظام العالمي بوجه عام، والولايات المتحدة بوجه خاص. ولا يمكن إعفاء دول عربية عدة من المسؤولية، أمَّم بعضها قضية فلسطين لحسابه ردحاً من الزمن، وتاجر بعضها بهذه القضية سعياً إلى مكاسب داخلية أو إقليمية وأحياناً دولية، وتدخل بعضها في الشأن الفلسطيني تدخلاً كثيفاً بأشكال مختلفة. وساهم الدور الدولي الذي كان معظمه، أو اتجاهه العام الغالب، سلبياً، في إلحاق ضرر بالغ بقضية فلسطين، وقلْ مثل ذلك عن أدوار الدول العربية المجاورة لميدان الصراع على فلسطين ودول عربية أخرى كبيرة. ومع ذلك، ظل أداء القوى المقاومة منذ حركة "فتح" وحتى حركة "حماس"، مروراً بالفصائل اليسارية والقومية العربية المختلفة، هو المسؤول الأول عن فشل العمل الوطني الفلسطيني في تحقيق تقدم باتجاه الاستقلال الذي تراجع الطموح فيه من دولة علمانية في فلسطين التاريخية إلى دولة في الأراضي المحتلة عام 1967. فلم تعرف أي من حركات التحرر الوطني في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، مثل هذا الخلل البنائي- الوظيفي الذي عانت منه المقاومة الفلسطينية، وما زالت. فهذا الخلل يضرب هياكل الفصائل المختلفة ويصيبها بتشوهات في بنائها ويضعف أداءها ويجعلها عاجزة عن أداء وظائفها سواء السياسية أو العسكرية أو المجتمعية. وأهم ما يتسم به هذا الخلل هو استعصاؤه على التصحيح، رغم أن الكثير من أوجهه معروفة تم تشخيصها آلاف المرات في كتابات ومؤتمرات ومساجلات، كما جرى وصف علاجات متنوعة لها من منطلقات ووجهات نظر مختلفة. تواصل الخلل في أداء الفصائل الفلسطينية، وازداد عبر عملية متواصلة أعاد فيها هذا الخلل إنتاج نفسه في صور جديدة وأشكال متجددة. وهذه خصيصة يصعب أن نجد مثلها في أي من حركات التحرر الوطني، التي غطت مساحة واسعة من هذا الكوكب الأرضي في مرحلة الكفاح من أجل التحرر والخلاص من الاستعمار. وها هو النضال الفلسطيني يعيد اليوم إنتاج أحد أهم عناصر الخلل التي ينفرد بها، أو يكاد، وهو استمرار هيمنة قيادة الخارج على الداخل. فهذه هي المشكلة الرئيسية في حركة "حماس" والتي صارت معضلة شديدة الخطر بالنسبة إلى الوضع الفلسطيني في عمومه منذ أن تصاعد دورها وبالتالي نفوذها وشعبيتها، وخصوصاً بعد حصولها على الغالبية في الانتخابات التشريعية في يناير الماضي ثم تشكيلها الحكومة للمرة الأولى. وليس جديداً أن تكون لحركة تحرر قيادتان، إحداهما في الداخل والأخرى في الخارج، كان هذا هو حال معظم حركات التحرر ضد الاستعمار، فالقمع الذي يتعرض له المناضلون في الداخل يفرض إبقاء بعضهم في الخارج تحسباً لأسوأ الظروف. غير أن القرار النهائي كان دائماً لقيادة الداخل لأنها الأكثر معرفة بواقع مسرح العمليات بحكم وجودها في قلبه، وبالتالي الأوفر قدرة على تقدير الموقف وتقويم الخيارات المتاحة والمفاضلة بينها. غير أن ما يحدث في حركة "حماس" هو العكس، إذ تتمتع قيادة الخارج، وعلى رأسها خالد مشعل رئيس المكتب السياسي، بنفوذ أقوى مقارنة بقيادة الداخل. وهذا هو المصدر الأساسي لتفاقم الأزمة الفلسطينية منذ تشكيل الحكومة التي يرأسها إسماعيل هنية أحد أبرز قادة الداخل المعتدلين، فقد عجز هنية والجناح المعتدل في قيادة الحركة، عن اتخاذ خطوة صغيرة، أو حتى نصف خطوة، للخروج من مأزق الحصار الشامل الذي فرض على الحكومة، وعلى الشعب الفلسطيني بالتالي. وكان سبب عجزهم، في المقام الأول، هو رفض قيادة الخارج السماح لهم بأي نوع من المناورة الهادفة إلى فتح ثغرات في جدار الحصار المحكم من دون التنازل عن ثوابت الحركة. كان في إمكان رئاسة الحكومة أن تفتح مثل هذه الثغرات إذا استجابت إلى نصح مخلص من كثيرين، تمنوا أن تعلن قبولها الالتزامات المترتبة على الحكومات السابقة متى التزم بها الطرف الآخر، وذلك باعتبارها جزءاً من النظام السياسي الفلسطيني، وعلى أساس أن القانون الدولي يلزم أي حكومة جديدة، في أي بلد، بالاتفاقات التي وقعتها الحكومات السابقة. وكان كاتب السطور أحد الذين نصحوا حكومة إسماعيل هنية بذلك، على صفحات "وجهات نظر" في المقالة المعنونة (أي هدية من حكومة حماس لشعبها؟) والمنشورة في العدد الصادر يوم الخميس 6 أبريل الماضي. كما كان في إمكان حكومة "حماس" أن تعتمد المبادرة العربية للسلام لتؤكد أن انتماءها إلى حركة إسلامية عالمية لن يكون على حساب روابطها العربية، ولتغير في الوقت نفسه في المعادلات القائمة بما يؤدي إلى تخفيف الضغط عليها للاعتراف بإسرائيل. فقبول المبادرة العربية للسلام لا ينطوي على اعتراف مباشر ولا يفرض عليها أي التزام عملي، لأن إسرائيل رفضت هذه المبادرة. وكان عجباً ما سمعناه من بعض قادة "حماس"، وهو أنهم لن يقبلوا مبادرة رفضتها إسرائيل، وكأن مرجعيتهم في تل أبيب أو في القدس المحتلة. ووجه الخلل في هذا الموقف أن قبول مبادرة رفضتها إسرائيل هو الذي يحرر "حماس" من أي التزام على الصعيد العملي، فلو أن إسرائيل قبلت المبادرة، أو حتى لم ترفضها بشكل حاسم، لكان لقادة الحركة المتشددين أن يخشوا تبعات قبولهم بها. ومما يزيد العجب في هذا الموقف، أن المبادرة العربية كانت على جدول أعمال الاجتماع الأول لحكومة "حماس". فقد طرحها وزراء معتدلون باعتبارها مسألة عاجلة لاستباق الحصار الذي كان واضحاً في الأفق يراه كل ذي عينين. ولكن كان على رئيس الحكومة أن يعود إلى المكتب السياسي للحركة الذي بدأ بالمماطلة، ثم أبدى تحفظات على ما ورد في المبادرة بشأن الدولتين والتطبيع العربي- الإسرائيلي رغم أنه مؤجل إلى حين التزام إسرائيل بالشرعية الدولية والانسحاب من الأراضي العربية المحتلة عام 1967 كاملة. وهكذا، بدا منذ الأيام الأولى لتولي "حماس" الحكومة الفلسطينية، أن "الفيتو" الذي يمتلكه القادة الأكثر تشدداً في الخارج يحرم القادة الأكثر اعتدالاً في الداخل من أي هامش للمناورة تشتد حاجتهم، بل حاجة الشعب الفلسطيني وقضيته، إليه. ويحدث ذلك في الوقت الذي تتسع فيه المسافة بين رؤيتي المتشددين في الخارج والمعتدلين في الداخل، علماً بأن في الخارج معتدلين أيضاً كما في الداخل متشددين. ولكن المتشددين هم أصحاب النفوذ بين قادة الخارج، وهم يستمدون أحد أهم مصادر نفوذهم من سيطرتهم على الجناح العسكري للحركة الذي هو في الداخل (كتائب عزالدين القسام)، وعلى قطاع واسع من المستويين الوسيط والقاعدي للجناح السياسي. غير أن هذا التداخل في توزيع المعتدلين والمتشددين في الداخل والخارج، يعمل في اتجاه هيمنة الأكثر تشدداً، والذين تؤدي ممارسات إرهاب الدولة الإسرائيلية إلى دعم مواقفهم في أوساط قواعد الحركة وجناحها العسكري لما تنتجه هذه الممارسات من غضب واستفزاز ورغبة في الانتقام لشهداء يسقطون وزملاء يُخطفون. وفضلاً عن هذا الأثر الذي تحدثه السياسة الإسرائيلية العدوانية، تفعل عوامل إقليمية أخرى فعلها في اتجاه دعم مواقف الأكثر تشدداً في حركة "حماس". فالعلاقة الوثيقة التي تربط بعضهم، وخصوصاً رئيس المكتب السياسي خالد مشعل، بكل من سوريا وإيران تدفع في اتجاه التشدد، ولكنها تثير كذلك سؤالاً عن إمكان أن تؤثر مرونة سورية نسبية طارئة تجاه الوضع الفلسطيني في تعديل موقف قادة "حماس" المتشددين. فقد أبدت سوريا قدراً من المرونة خلال زيارة الرئيس بشار الأسد إلى القاهرة في 22 يونيو الماضي، ثم في توجيه الدعوة في اليوم التالي إلى الرئيس الفلسطيني محمود عباس لزيارة دمشق. والأرجح أن هذه المرونة الطارئة ترتبط بتحسب دمشق، لحلٍ قد يمكن الوصول إليه لأزمة الملف النووي الإيراني، على نحو ربما يقود إلى تحسين العلاقات بين طهران والغرب، ويضعها هي بالتالي وحيدة في المواجهة. ولذلك فهي تحتاج إلى غطاء عربي حتى لا تصبح عارية أمام الغرب في حال توصله إلى صفقة مع إيران. ولكن إذا كان ممكناً لمثل هذه المرونة السورية الطارئة، أن تؤثر في موقف قادة "حماس" المتشددين المرتبطين بدمشق، فكيف نفسر تنفيذ العملية الفدائية التي أسفرت عن خطف الجندي الإسرائيلي بعد ثلاثة أيام فقط على زيارة بشار إلى مصر؟ أمامنا ثلاثة احتمالات قد لا يكون هناك رابع لها: الأول، أن يكون قادة في الخارج هم الذين أمروا فعلاً بتنفيذ العملية، ولكن قبل التطور الذي حدث في الموقف السوري. وثانيها، أن يكون في هذا التطور من المناورة أكثر مما فيه من الجدية. وثالثها، أن تكون العملية نُفذت بمبادرة من الجناح العسكري وبدون تعليمات من الخارج بعد أن وصلت استهانة إسرائيل بحياة الفلسطينيين العزل إلى ذروة جديدة. فإذا كان الاحتمال الثاني (المناورة) هو الأقوى، كما يبدو من مسار الأحداث، بعد تنفيذ عملية 25 يونيو، سيظل الخلاف بين قيادتي "حماس" مصدراً لخطر متزايد على قضية فلسطين، خصوصاً ما بقي ميزان القوى بينهما راجحاً لمصلحة الأكثر تشدداً.