يرى المفكر د. برهان غليون أن الإصلاح في العالم العربي، لابد وأن يكون على مديات ثلاثة: على المدى الطويل، ويشمل تغيير البنى الثقافية والقيمية. وعلى المدى المتوسط، ويتم التركيز فيه على الفئات والطبقات التي ترتبط عملية الإصلاح بمصالحها، وعلى المدى القصير، خلق مناخ سلبي حول النظم السياسية وإكراهها -عبر الأمم المتحدة- على الدخول في مفاوضات جديدة مع قوى المعارضة. وترى الدكتورة مارينا أتاواي -ضمن الأطروحات التي طرحت في مؤتمر مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية في مارس الماضي- أن هنالك وجهتي نظر حول دور اللاعبين غير الحكوميين، الأولى، والتي يتبناها اللاعبون غير الحكوميين أنفسهم، وهي نظرة إيجابية تصورهم على أنهم مدافعون عن الديمقراطية وينادون بالمشاركة الديمقراطية، ووجهة النظر الثانية تعتبر سلبية، وتصنّف اللاعبين غير الحكوميين بأنهم قوة مخرّبة يمكن أن تعطّل محاولات الإصلاح. بالنسبة لما طرحه د. غليون، وهي المدد التي يجب على الإصلاح أن يمر عبرها، فأهم نقطة في ذلك هي مدة المدى القصير (وهي خلق مناخ سلبي حول بعض النظم السياسية وإكراهها -عبر الأمم المتحدة- على الدخول في مفاوضات جدية مع قوى المعارضة). ذلك أن هنالك دولاً -في العالم العربي- لا تعترف بالمعارضة، بل ولا تسمح لأية رأس تخالف مسيرة الحكومة المظفّرة بالارتفاع إلا وقطعت تلك الرأس! فكيف يمكن تحقيق مناخ سلبي حول النظم السياسية؟ كما أن وسائل الرأي العام كلها في يد الدولة وجماعات الضغط "تسبّح بحمد النظام"! ناهيك عن أن العديد من الأنظمة لا يسمح بالأحزاب أو حتى الجمعيات أو النقابات السياسية! أما الأحاديث "الشاردة" في الإنترنت، وفي بعض الفضائيات -التي من الممكن إغلاقها حتى وإن كانت متمترسة وراء ديمقراطية أوروبا- هذه الأحاديث لن تحقق الهدف، وتظل نوعاً من "الهذيان" السياسي الذي لا يؤثر على صلب التوجه الخاص بقضية الإصلاح. ناهيك عن أن بعض الدول تسمح بمساحات كبيرة من الحرية في إعلامها الرسمي، لكنها تضع خطوطاً حمراء عند المحاذير التي لا يجب الاقتراب منها! وحتى إن حصلت تجاوزات لتلك الخطوط، فإن النظام يعمل ما يشاء، والجماهير تكتب ما تريد! لذلك فإن هذا المدى الذي أشار إليه د. غليون لن يتحقق فيه شيء، كما أن الأمم المتحدة دوماً تخاطب الشرعية، ولا تلتفت إلى مطالبات الجماعات الساكنة خارج النظام وإن كانت على حق! أما المدى المتوسط (مخاطبة الفئات والطبقات التي ترتبط عملية الإصلاح بمصالحها)، فهي أيضاً تحتاج إلى نقاش! ذلك أن الفئات والطبقات التي ترتبط عملية الإصلاح بمطالبها هي الفئات المسحوقة والفقيرة، والتي لا يُسمع صوتها. كما أن فئات الضغط، والتجار، وذوي التأثير الاجتماعي والمالي في أي مجتمع حتماً مرتبطة بمصالح النظام. وبالتالي فإنه من الصعب التعويل عليها في قضية الإصلاح، ذلك أن ارتباطها التاريخي وولاءها للنظام ملتصق بديمومة مصالحها -الريع الذي تأخذه من النظام- وزيادتها عبر الحصول على أكبر قدر من العطاءات والمناقصات و"الهبات"! فهذه الفئات لن تغامر بمستقبلها ووضعها المالي من أجل عيون المطالبين بالإصلاح.. وهذه الفئات ستتضرر بعملية الإصلاح أيضاً، لأن الإصلاح سيكشف مكامن الفساد، ويقوي دور الرقابة المالية، ويدعم مؤسسات المجتمع المدني. وفي ظرف كهذا تسقط كل التسويفات أو التبريرات الخاصة بكسب ولاءات الجماعات التي ترتبط مصالحها بمصالح الإصلاحيين. بمعنى آخر.. أن الإصلاح سيكشف العلاقة بين النظام وتلك الفئات. أما الفئات الأخرى -التي من الممكن كسبها- فهي وإن ارتبط الإصلاح بمصالحها، إلا أنها مغلولة اليدين، ولن تجاهر بعملية الإصلاح، كونها -في الأغلب- تقبض راتب آخر الشهر من الدولة، وهي أيضاً لن تغامر بتشويه العلاقة مع النظام من أجل عيون الإصلاحيين! نحن أمام مأزق حقاً في العالم العربي. أما ما تراه الدكتورة "أتاواي" حول اللاعبين الحكوميين وغير الحكوميين، فهو لا يختلف عما سبق، فهم وطنيون مخلصون في نظرهم، ومخربون ومعطلون لعملية الإصلاح، وهي نظرة الحكومات ومن يسير في فلكها من المتصالحين مع النظام، الفائزين بنعمائه وخيراته.. وهم لا يريدون تغيير أو إصلاح النظام، وهم الفئات التي تتأثر مصالحها بعملية الإصلاح. نحن نعتقد أن عملية الإصلاح في المنطقة، ستأخذ وقتاً طويلاً حتى تتبلور وتصبح ضرورة ملحة، وتُخرج المصطلح من صيغة (الحاجة).. لأن الحاجة للإصلاح قد تجاوزها الزمن. ولكن ذلك يعتمد على المستشارين الذين تثق فيهم بعض الأنظمة، ومدى تقبلهم لفكرة الإصلاح التي تتأثر بها مصالحهم. كذلك مدى تقبّل تلك الأنظمة لأفكار الإصلاح، وتقريب الإصلاحيين بدلاً من إقصائهم واتهامهم باتهامات باطلة، كما حدث في الماضي، وعرقلة معاملاتهم أو تنغيص حياتهم، أقصد وضعهم في القائمة السوداء. والذين يعوّلون على إصلاح يأتي عبر البرلمانات الصورية مخطئون، لأن تجربة البرلمانات التي تضمن فيها الحكومات التفوق كشفت هشاشة ديمقراطية من هكذا فصيلة. وهنالك تجارب واضحة في المنطقة همّشت أو ساهمت في تهميش الإصلاحيين الحقيقيين. ولعل أبرز مثال لهذا الفصيل من الديمقراطية، مطالبة برلمانيين خليجيين بإعادة الرقابة على الصحافة، وإقرار قوانين بحبس الصحافي. ولقد سعت النخب في الخليج أكثر من ثلاثين عاماً لرفع الرقابة على الصحف وشطب حبس الصحافي من قانون المطبوعات. فأي تحديث أو إصلاح يمكن أن يأتي عبر "ممثلي" الشعب، إن كان ممثلو الشعب بهذه العقلية؟ أما اللجوء إلى الأمم المتحدة والتعويل عليها في عملية الإصلاح -كما طرحها د. غليون- فإن الدول ذاتها تتحكم في شكل المعارضة، ولا تسمح بأن تطل برأسها في المجتمع. فالوطن العربي منقسم على نفسه حول رؤيته للأحزاب، وهنالك بلدان "ديمقراطية" يحكمها حزب واحد لأكثر من خمسة وثلاثين عاماً وبلدان أخرى يحكمها شخص واحد لأكثر من ثلاثين عاماً، والحديد والنار في وجه أي محاولة لانتقاد الحكومة، فكيف لتأسيس حزب معارض، يقول: لا؟ وكما أوضحنا، فإن الأمم المتحدة تتعامل مع الدول الأعضاء فيها، والدول تمثل الشرعية لا الشعوب، وبذلك، فليس من حق الأمم المتحدة ولا غيرها من المنظمات الدولية، ولا الأهلية، التدخل وبحث مسألة الإصلاحات في أي بقعة من العالم، لأنها بذلك تجترئ على السيادة، وهو أمر بالغ الحساسية للدول "المستقلة"! لربما كان هنالك حل في هذه المسألة، وهو أن يصدر قرار من الأمم المتحدة يسمح لها، ولبعثاتها، بالتدخل وبحث مسألة الإصلاح في جميع دول العالم، وتوافق الدول على هكذا قضية. حيث إن الموضوع غير مرتبط بحقوق إنسان ولا أقليات إثنية، تطالب بالاستقلال، ولا بحرب أهلية، وقد تكون للأمم المتحدة لجنة لبحث هذه القضية. وأخيراً.. فإن الإصلاح -الذي تصر دول الوطن العربي- على ألا يأتي من الخارج، فإنه لن يأتي البتة.. وهنالك مخرج واحد فقط.. وهو أن يأتي من الخارج! وللآخرين رأي نحترمه في هذا الشأن.