ما الذي يوصل الإنسان، وبالتالي الشعوب والأمم، إلى الانسحاب الكامل من الحياة وإلى الاستسلام للموت البطيء المحقّق أو ارتكاب حماقة الانتحار؟ إن تعامل الإنسان العربي كفرد، وتعامل الدول العربية كجماعات ومؤسسات مع التطورات المستجدة في الساحة الفلسطينية يستوجب طرح مثل هذا السؤال الصّعب. ذلك أن ردود الأفعال العربية ليست سياسية، بحيث يمكن إلى حدٍّ ما فهممها، وإنّما هي ذهنيّة ناتجة عن عقل مضطرب ومشاعر مشوّشة وضمير شبه ميت. من المعروف على مستوى الفرد أن الذي يؤدّي إلى يأسه من الحياة ثمّ إقدامه على إنهائها بالانتحار هو وضع نفسي بالغ التأزّم والألم الذي لا يطاق، تولّده مشاعر مثل الخجل أو الكآبة أو اليأس. فهل وصل الحال بالأمة العربية، من قلّة الحيلة وانسداد الأبواب أمامها، إلى مرحلة تسمح فيها لمشاعر الخجل والكآبة واليأس أن تسيطر عليها فتشلّ عقلها وإرادتها وتدفعها دفعاً مرعباً نحو الانسحاب الفعلي من الحياة الفاعلة والاقتراب من حافة الانتحار؟ إن بعض ما نشاهده يكاد يجيب على السؤال الأخير بالإيجاب. فكثير من المؤسسات الرسمية العربية أو الإسلامية اكتفت باستنكار وشجب الهجوم الإجرامي الصهيوني على غزّة، ورأينا أن الحكومات العربية والإسلامية لم تطالب بفعل أيّ شيء أو اتخاذ أي إجراء تجاه إسرائيل أو تجاه الدول التي تقف معها، مثل الولايات المتحدة الأميركية. والمؤسسات غير الحكومية فعلت الشيء ذاته، إذ شجبت واستنكرت ودعت الحكومات لعمل شيء ما لمساعدة الفلسطينيين دون أن تذكر ما الذي ستفعله هي إن لم تستجب الحكومات. بل الأشنع من ذلك كان هو الوساطات العربية للإفراج عن الجندي المختطف والإيماءات في وسائل الإعلام العربية بلوم الفلسطينيين على اختطاف جندي يحتلّ أرضهم وعدم ربط ما يحدث الآن بالقضية الأساسية: احتلال وطن وتشريد شعب مع وقوف يجلّله عار وخزي للمجتمع الدولي والدول الغربية والأمم المتحدة، من ذلك الاحتلال والتشريد، بل والإبادة الجماعية على مرأى ومسمع من العالم. لكن هل حقاً أن أمة يزيد تعدادها على ثلاثمائة مليون نسمة، يمتدُّ وطنها عبر قلب الكرة الأرضية ليمثل أهم المناطق الاستراتيجية في العالم، وتختزن في أرضها ثلثي الاحتياطي العالمي من النفط وثلث المخزون العالمي من الغاز الطبيعي، وهما مصدرا الطاقة اللذان يحرّكان عجلة الاقتصاد العالمي برمّته، وتستورد سنوياً مئات مليارات الدولارات من البضائع الأميركية والأوروبية، بل تمثل أكبر مستورد للسلاح على مستوى العالم كله، وبالتالي تشغّل ملايين الأيدي العاملة في دول التصنيع العسكري، زد على ذلك أنها تختزن في داخلها الطاقات الهائلة لدين الإسلام، وترفع لافتة أعدل قضية عرفتها البشرية... هل حقاً أن أمة كهذه لا تستطيع فعل أيّ شيء على الإطلاق لمساعدة أهل غزّة وهم يواجهون الموت والدّمار والجوع والابتزاز وصمت ضمير أميركا والأمم المتحدة؟ إذا كان جواب هذا السؤال، بموضوعية تامة وبعدم الشطط، هو بالإيجاب فإننا فعلاً نسمح لأنفسنا كأمة بالاقتراب المفزع من وضع ذلك الفرد الذي تدفعه مشاعر الخجل والكآبة واليأس إلى ارتكاب حماقة الانتحار. ذلك أن كل ما نفعله تجاه إماتة غزّة، ومن قبلها احتلال العراق وتمزيق السودان والتخلّي عن الصومال والسّماح بالتطبيع المتسارع مع النازيين في فلسطين... يوحي بأننا بدأنا مسيرة الخروج من نهر الحياة. إن المفجوعين بانتحار عزيز عليهم يشعرون عادة بالذنب لأنهم فشلوا في منع الانتحار، وأحياناً يشعرون بالغضب لأنهم يرون أن المنتحر أراد أن يعاقبهم على عدم اهتمامهم به. فهل يريد المفكرون وقادة مؤسسات المجتمع وطلائع النضال في كل أرجاء الوطن العربي، أن يصلوا في النهاية وبعد فوات الأوان إلى العيش مع مشاعر الغضب والشعور بالذنب، أم أنهم سيحملون مسؤولياتهم التاريخية؟ سؤال تطرحه غزّة علينا جميعاً. د. علي محمد فخرو