أثار قيام الحكومة المصرية بـ"الوساطة" بين الفلسطينيين وإسرائيل مؤخراً رفضاً وغضباً علنياً من جانب بعض المنظمات الفلسطينية. الوساطة جرت بهدف "تجنيب" الفلسطينيين مزيداً من أعمال العدوان الإسرائيلية, وبصورة أخص تجنب اجتياح إسرائيلي لقطاع غزة, بما يعنيه من قتل ودمار إضافيين. ولا نعلم الكثير عن ميكانيكية هذه الوساطة وطبيعة الصفقة التي تعرضها الحكومة المصرية, وإن كان من المعتقد أنها تتضمن إطلاق سراح الجندي الإسرائيلي الذي أسره مقاتلون فلسطينيون. وكان استعمال مصطلح الوساطة لوصف الدور المصري فيما يتعلق بالصراع الفلسطيني- الإسرائيلي قد أثار غضباً واسعاً من جانب الرأي العام العربي وقطاع عريض من المجتمع المدني والسياسي المصري. ولاشك أن هذا الغضب يتضاعف عندما يتعلق الأمر بالموقف المتفجر في الأرض المحتلة. أسباب هذا الغضب واضحة بذاتها. إذ يستحيل قبول أن يتم "تنزيل" الدور المصري من قيادة العالم العربي في النضال من أجل تصفية نظام الاحتلال الإسرائيلي وتمكين الشعب الفلسطيني من انتزاع حقوقه السياسية والتاريخية إلى مجرد "وساطة". فقد يمكننا أن نفهم أن تقوم دولة أجنبية أو غير عربية بوساطات ما في أمور إجرائية, ولكننا لا يمكن أن نقبل هذا الدور من أكبر دولة عربية, والدولة التي يفترض أن تقوم بدور القيادة في النظام العربي. وفوق هذا وذاك فدور الوساطة ذاته يفترض صراحة أو ضمناً أن تحظى الدولة التي تقوم به بـ"ثقة" الطرفين! وهو ما يحتم على هذه الدولة الاحتفاظ بمسافة ما ولو كانت متفاوتة مع الطرفين, بل وقد يحتم أن تتعمق العلاقات المصرية- الإسرائيلية إلى درجة تبرر لإسرائيل الثقة بالدور المصري! أو على الأقل الرضا عن هذا الدور, وهو مما يشين الحكومة المصرية, ولا يجب أن يسبب لها أي رضى. ومن ناحية ثالثة فإن "تنزيل" الدور المصري إلى مستوى الوساطة في أزمات أو نزاعات تفصيلية يعني غياب أو على الأقل إضعاف الدور السياسي الأكبر والأعظم لمصر والذي يجب أن يكون منحازاً كلية للفلسطينيين. الخطاب الرسمي المصري لا يستعمل مصطلح "الوساطة", ولكن هذا المصطلح يصف بقدر من الدقة واقع الدور المصري منذ عدة شهور أو ربما عدة سنوات. وربما يمكننا استقراء بعض المبررات الضمنية والصريحة لاضطلاع الحكومة المصرية بهذا الدور. أول هذه المبررات هو أن رفض مصر القيام بهذا الدور قد يعني في الواقع أن أحداً لن يقوم به, وهو ما يترك الشعب الفلسطيني في الحقيقة فريسة لإسرائيل بصورة كاملة. وفي حالات كثيرة قد يعني ذلك أن يتم التخلي حتى عن محاولة إنقاذ الشعب الفلسطيني من عمليات عدوان مدمرة ومريعة مثل تلك التي تخطط لها إسرائيل ضد قطاع غزة. إن العمق الحقيقي لهذا المبرر هو أن التخلي عن دور الوساطة لا يقود بالضرورة إلى عودة مصر إلى القيام بدور نضالي قيادي في مواجهة العسكرية الإسرائيلية, وهو ما تحول دونه الاتفاقيات الموقعة بين مصر وإسرائيل وعلى رأسها المعاهدة المصرية الإسرائيلية لعام 1978. كما أن تخلي مصر عن دور الوساطة لا يقود بالضرورة إلى عودة مصر للقيام بدور أساسي في الفضح والإدانة الدبلوماسية والسياسية للسياسات الإسرائيلية عموماً. لقد قامت مصر بهذا الدور الأخير ولو جزئياً كبديل لدور قيادة النضال المباشر ضد نظام الاحتلال الإسرائيلي. ويبدو أن هذا الدور السياسي والدبلوماسي لم يعد ممكناً بأي قدر من الفعالية منذ تنصيب جورج بوش الابن رئيساً للولايات المتحدة, بل ومنذ انهيار نظام القطبية الثنائية في عهد جورج بوش الأب, وقيام الولايات المتحدة بتوفير حماية دبلوماسية وسياسية كاملة لإسرائيل في الأمم المتحدة والمنظمات الدولية الأخرى. وكان هذا الدور على ضعفه وقلة فعاليته أفضل من دور الوساطة لأنه كان دالاً من الناحية الرمزية على الانحياز المصري الكامل للشعب الفلسطيني وبصورة لا لبس فيها. وبتعبير آخر فإن دور الوساطة الذي يستهدف تجنيب الفلسطينيين مزيداً من الدمار هو ما بقي عملياً لمصر, بعد اضمحلال أو اختفاء الاختيارات والأدوار والأوراق الأخرى التي تتطلب قدرة حقيقية على المواجهة الفعالة لإسرائيل. وتؤكد الحكومة المصرية أن قيامها بهذا الدور لا يعني إطلاقاً التخلي عن الانحياز الكامل للشعب وللقضية الفلسطينية, ولكنه يعني فهماً موضوعياً وواقعياً لحدود الممكن سياسياً في ظل المعطيات الراهنة! ويبدو أن بعض الفصائل بل والسلطة الفلسطينية ذاتها لا تعترض على الوساطة المصرية, باعتبارها "أفضل من لا شيء" في ظل السياسات الأميركية والضعف العربي الشامل. وبعض المنظمات الفلسطينية تقبل بهذا الدور المصري لأنه خير من لا شيء ولكنها تريد أن تحقق من ورائه بعض المكاسب العملية الإيجابية, مثل قيام مصر بالوساطة لضمان تبادل للأسرى, وليس إطلاق سراح الجندي الإسرائيلي بمقابل مجرد تجنب العدوان على غزة. وتشعر بعض هذه المنظمات أو الفعاليات الفلسطينية بالغضب والمرارة لأن الحكومة المصرية لم تقم بالوساطة الصحيحة والممكنة والقابلة للقبول الفلسطيني وهي إطلاق سراح آلاف أو مئات من الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية. وبتعبير آخر فإن الدور المصري لم يتم تنزيله، حسب هذه الرؤية، إلى مجرد الوساطة فحسب, بل وتم تنزيله إلى أقل صور الوساطة طموحاً وقيمة, وهو مجرد تجنيب القطاع أعمالاً عدوانية إسرائيلية كانت تقع وستقع على أي حال! وهنا تحديداً يكمن الخطأ الفني الذي وقعت فيه السياسة المصرية وخاصة فيما يتعلق بجهود ومفاهيم "الوساطة" الحالية. فهي تشتمل على سوء تقدير فظيع للحالة السياسية والنفسية الفلسطينية, أو للواقع الفلسطيني بشكل عام. ببساطة لم يعد الفلسطينيون يهتمون بتجنب أعمال العدوان الإسرائيلي مهما بلغت همجيته, فهم مستعدون نفسياً للتعامل مع أية نتائج للعدوان طالما أنهم اتخذوا قرارهم الاستراتيجي باستمرار النضال من أجل التحرر من الاحتلال الإسرائيلي بل والنضال ضد الصهيونية والعنصرية الإسرائيلية بجميع جوانبها. ويترتب على واقع الفلسطينيين أن محاولة "إنقاذهم" من عدوان إسرائيلي جديد لن تحظى بالتقدير أو حتى الاحترام. والطريق الوحيد للحصول على احترامهم والقيام بدور بناء معهم هو الدفع نحو رؤية خلاَّقة لمسار نضالهم. أما الخطأ السياسي في قرار الوساطة الحالية فهو أنه يقوم على سوء تقدير فظيع لهدف إسرائيل ولطبيعة المرحلة الحالية من الصراع. فالفلسطينيون يعلمون حقائق موازين القوى, ويدركون مدى ضيق الاختيارات المتاحة أمامهم. ولكنهم اتخذوا قرارهم الاستراتيجي بالرفض التام لاستراتيجية إسرائيل الرامية لتركيعهم, واستمرار النضال لتحقيق أهداف سياسية, وليس مجرد تحقيق أهداف إنسانية مثل إطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية. وقد لا يطلبون من الدول العربية إسناداً استراتيجياً فعالاً في اللحظة الراهنة, ولكنهم يطلبون في الحد الأدنى احترام نضالهم. والوساطة المصرية لا تنهض على احترام كافٍ لهذا النضال. ولهذا فالوساطة الحالية تخطئ الرموز مثلما تخطئ التقدير والأهداف, من وجهة نظر أكثرية الفلسطينيين. أما من وجهة نظر المصريين, فالوساطة ببساطة لا تليق بمصر.