كانت الصورة التي حملها أحد رجال الدين في الكونجو ليعرض محتواها على زوار كنيسته، معبرة للغاية، حيث تلخص إلى حد كبير المأساة التي ابتليت بها الكونجو، البلد الشاسع في وسط أفريقيا على امتداد العقد الأخير. وتُظهر الصورة مجموعة من الطيور الكاسرة وهي تُهرب الذهب والألماس والمعادن النفسية خارج البلاد، بينما تنقل الأسلحة والدبابات إلى الداخل. أما البيروقراطيون في البلاد فهم غارقون في تكديس أموال الضرائب والاستئثار بها في الوقت الذي يعتدي فيه رجال الشرطة على المواطنين في الشوارع. وبكلمات معبرة خاطب القس الجمهور الذي احتشد في كنيسته قائلاً: "هذا هو المكان الذي نعيش فيه". لكنه سرعان ما أشار إلى صورة أخرى تظهر مستقبلاً واعداً حيث الطلبة يجلسون في الفصول الدراسية، والمراكز الصحية تقدم خدماتها المجانية للمواطنين، فضلاً عن انسياب الكهرباء إلى كل البيوت. ولشرح الصورة أوضح القس قائلاً: "هذا هو المكان الذي نرنو إليه جميعاً، لكن الوصول إليه يعتمد على تصويتكم في الانتخابات". فمن من المقرر أن تشهد الكونجو نهاية شهر يوليو الجاري أول انتخابات رئاسية منذ 1965 حيث لم يكن معظم الكونجوليين قد ولدوا بعد لتمنحهم فرصة جديدة لاختيار قادتهم والتعبير عن رأيهم بكل حرية. غير أن هذه الانتخابات التي تستأثر باهتمام العديد من المراقبين داخل أفريقيا وخارجها ستكون الأكثر تكلفة في تاريخ القارة السمراء، إذ تشير التقديرات إلى تجاوزها سقف 400 مليون دولار، فضلاً عن التعقيد الشديد الذي تنطوي عليه. فالملايين من بطاقات الاقتراع يتعين توزيعها على السكان، وعشرات الآلاف من صناديق الاقتراع يتعين إيصالها إلى المراكز المختلفة في بلاد وإن كانت بحجم أوروبا الغربية إلا أنها لا تتوفر سوى على 300 ميل من الطرق المعبدة. "كولين ستيوارت"، المنسق في "معهد كارتر" الذي يشرف على مراقبة الانتخابات يقول في هذا الصدد "تطرح هذه الانتخابات التحديات الأكثر تعقيداً في تاريخ الانتخابات الأفريقية". ومع ذلك لا يكمن التحدي في إيصال صناديق الاقتراع إلى أماكنها المخصصة، بل يكمن في إقناع الأطراف الكونجولية المتصارعة بالاعتراف بالنتائج واحترامها، فضلاً عن تدبير الانتظارات العريضة للمواطنين بعدما أنهكهم واحد من أشد الصراعات دموية منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية. وهكذا يظهر "جوزيف كابيلا" رئيس الحكومة الانتقالية -ونجل زعيم المتمردين الراحل الذي أطاح بالديكتاتور السابق "موبوتو سيسيكو- المرشح الأوفر حظاً بين جميع المرشحين الثلاثة والثلاثين، لاسيما وأن معظمهم غير معروف لدى الشعب الكونجولي. ورغم الموارد الهائلة التي وظفت لوضع صناديق الاقتراع في المراكز المختلفة من البلاد، فإن الثقافة المدنية للمواطنين ضعيفة جداً لا تؤهلهم لمعرفة الرهانات الأساسية المطروحة أمام بلادهم. ويبدو أن أحد أهم تلك الرهانات الغائبة عن أذهان السواد الأعظم من الشعب الكونجولي هو ما يتعلق منها بمستقبل البلد الأكثر اضطراباً في إفريقيا، وأكبرها ثروة. فقد كانت الكونجو خاضعة طيلة الثلاثة عقود الماضية لحكم استبدادي في عهد موبوتو، بعدما انقض على السلطة سنة 1965 وغيَّر اسم البلد إلى زائير سنة 1971. ولم يعد خافياً الدور الذي لعبه في نهب الثروات التي يزخر بها البلد كالذهب والنحاس والألماس. ورغم نجاح المتمردين في الإطاحة به سنة 1997 تم إهدار معظم الوقت في محاربة مجموعة من الميليشيات المدعومة من قبل الدول المجاورة للكونجو والتواقة إلى الحصول على حصتها من الثروة. وإذا كانت الحرب الأهلية قد انتهت رسمياً في 2002، فإن الاقتتال لم يتوقف أبداً طيلة الفترة السابقة مع اشتداد وتيرته في المنطقة الشرقية من البلاد. فبعد انتهاء الحرب سيطرت على البلاد مجموعة من الميلشيات وعملت على صياغة سياستها الخاصة. وحصلت أقوى الميلشيات على المناصب الرفيعة في الحكومة الانتقالية، كما نالت استقلالية تامة في إدارة المناطق الواقعة تحت سيطرتها. ورغم القرار الذي صدر بحل الميلشيات المسلحة وانضمامها إلى الجيش احتفظ العديد منها بسلاحه واستمر في خوض المعارك الضارية. ومن ناحيتها ساهمت القوى الخارجية في تعقيد الوضع الكونجولي، لاسيما بعد فرار ميلشيات "الهوتو" المتورطة في المجازر البشعة التي عرفتها رواندا المجاورة في 1994 إلى داخل البلاد ونشرها الرعب بين السكان في القرى. ولاشك أن تواجد ميلشيات "الهوتو" على التراب الكونجولي دفع رواندا إلى غزو الكونجو سنة 1996 مساهمة بذلك في تأزيم الوضع الأمني والدفع به إلى مزيد من التردي. ولعل ما يزيد من تعقيد الوضع هو الاختلاف بين منطقة وأخرى على المستوى السياسي، بحيث تصبح عملية صهر المناطق في أتون كيان موحد صعبة للغاية. ففي شمال البلاد يسود حزب "التجمع الكونجولي الديمقراطي" الذي كانت تدعمه رواندا. لكن رغم سيطرته السابقة على ثلث البلاد الغني بالمعادن، فإنه فقد الكثير من شعبيته بسبب علاقاته المتداخلة مع رواندا التي يحملها المواطنون العديد من المشاكل التي ترزح تحت وطأتها بلادهم مقللة من حظوظه في الانتخابات المقبلة. بيد أن الصعوبات الكثيرة التي تواجهها عملية تنظيم الانتخابات في بلد مترامي الأطراف مثل الكونجو وتتنازع السيطرة عليه العديد من الميلشيات المتصارعة لا تلغي التقدم الملموس الذي حقق لإجراء انتخابات في ظروف جيدة. فرغم العنف المتواصل تم تسجيل ما لا يقل عن 25.6 مليون مواطن في اللوائح الانتخابية. كما أن نسبة التصويت في الاستفتاء الذي أجري في شهر ديسمبر الماضي للمصادقة على الدستور الجديد وصلت إلى 70%. ويبقى الإنجاز الأهم هو ارتفاع نسبة الناخبين من النساء إلى 51% في بلد مازال فيه معدل العنف الممارس ضد المرأة كبيراً. ليديا بولجرين ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مراسلة "نيويورك تايمز" في الكونجو ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"