بعد "الذكر" و"الحديث" (المقال السابق) يأتي لفظ "القرءان" في سورة "البروج" (ورتبتها 27)، وذلك في الآية التي ختمت بها، والتي جاءت كرد على الذين كذبوا بما كان يأتي به الوحي المحمدي من أخبار الأمم الماضية. لقد رد القرآن عليهم بقوله تعالى: "بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ، فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ" (البروج 21/22). ونحن نعتقد أن سياق هذا الرد ينتمي إلى مرحلة متأخرة، مما يقتضي أن تكون رتبة هذه السورة بعد رقم 27. وإذا صح هذا فإن أول سورة -حسب ترتيب النزول- سيذكر فيها لفظ "القرآن"، هي سورة القيامة (ورتبتها 31). ففي هذه السورة ورد قوله تعالى مخاطباً نبيه الكريم: "لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (أي قراءته)، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ" (القيامة 16/19). هناك مرويات متعددة تحدثت عن سبب نزول هذه الآية. قالوا: إنه عندما كان جبريل يقرأ القرآن على النبي كان صلى الله عليه وسلم يحرك شفتيه حرصاً منه على إمساكه وحفظه، فنزلت الآيات لتطمئنه... نحن نرجح أن تكون هذه الآية هي أول آية ذكر فيها لفظ "قرآن"، لكون هذا اللفظ قد استعمل هنا كمصدر بمعنى القراءة. وكما هو شأن القرآن في التدرج بالأمور، فقد تم الانتقال بلفظ "القرآن" من هذا المعنى اللغوي الذي يعني مجرد القراءة، إلى المعنى الشرعي الذي يعني كلام الله المقروء أو المتلو بلسان عربي مبين. وقد حددت آية سورة البروج وضع هذا المقروء الذي أعرضت عنه قريش وكذبته، وذلك في قوله تعالى رداً عليهم: "بل هو قرْآنٌ مَجِيدٌ، فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ" (البروج 21/22). وبذلك تكون هذه الآية هي ثاني مرة يرد فيها لفظ "القرآن" (في القرآن) وبالتالي فمن المرجح أن تكون رتبة سورة البروج هذه، في ترتيب النزول، ليس 27 كما ذكرنا بل 33. لقد خاطبت آية سورة القيامة الرسول، الذي كان يكرر في عجلة ما يأتيه به جبريل، موضحة أن الأمر يتعلق بمقروء يقرؤه له جبريل إلى أن يحفظه في صدره، وبالتالي فلا موجب للخوف من أن يفلت منه شيء! ثم جاءت بعد ذلك آية سورة البروج لتخاطب المكذبين الذين لم يستسيغوا أن يكون "قرآن محمد" تنزيلاً من عند الله، جاءت لترد عليهم: "بَلْ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ، وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ، بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ، فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ" (البروج 19/22). ومما يعزز هذا الرأي في وعينا أن عبارة "قرآن مجيد"، التي نعتقد أن لفظ القرآن ذكر فيها لثاني مرة، ستتكرر لثالث مرة في سورة "ق" (وترتيبها 34)، التي مطلعها قوله تعالى: "ق. وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ، بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ" (ق 1/2). إن التناسب بين السور، أعني بين الآيات الأخيرة في كل سورة والآيات الأولى في التي بعدها، والذي عني به المهتمون بعلوم القرآن، يقتضي أن تكون سورة البروج قد نزلت قبل سورة "ق" مباشرة، وبالتالي أن تكون رتبتها 33 وليس 27. الآن وقد استقر لفظ "القرآن" كاسم علم على الوحي المحمدي فإن الأسماء السابقة (ذكر، ذكرى، تذكرة، حديث) ستصبح أوصافاً للقرآن أو أسماء شارحة له. وسيتقرر هذا في سور "ق" نفسها. لقد اختتمت بآية تدعو الرسول إلى التذكير بالقرآن: "فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ" (ق 45). وهكذا فما كان به "الذكر" و"التذكرة" و"الذكرى"، وما كان حديثاً وقرآناً (أي مقروءاً)، أصبح له الآن اسم محدد، اسم علم، هو القرآن. ومع ذلك فالارتباط بين الذكر والقرآن سيبقى قائماً كما في الآيات التالية: ففي سورة القمر (ورتبتها 37) ستتكرر عبارة "وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ" أربع مرات (آيات: 17-22-32-40)، وذلك في نهاية كل مقطع يحكي ما تعرض له الأنبياء من تكذيب من طرف أقوامهم. والشيء نفسه سنلاحظه في مستهل سورة "ص" (ورتبتها 38). يقول تعالى: "ص. وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ، بَلْ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ" (1/2). وعندما اعترضت قريش على أن يكون الله قد اختار محمدا عليه الصلاة والسلام رسولا إليهم فقالوا: "أَؤُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا؟" جاء الجواب مخاطباً النبي عليه الصلاة والسلام: إنهم في الحقيقة لا يعترضون عليك بل يشكون في صحة ما أُنِزلُ عليك: "بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي (منسوب إلى الله) بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ" (ص 8). وكما بدأت هذه السورة بالقسَم بـ"القرآن ذي الذكر" والإشارة إلى تكذيب مشركي قريش، ختمت بالتأكيد على أنه "ذكر للعالمين". قال تعالى مخاطباً نبيه الكريم: "قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُتَكَلِّفِينَ، إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ" (ص86/88). وتستمر قريش في تكذيب النبي واتهامه بالجنون وغيره، مما كان لابد أن يترك الأثر السيئ في نفسه، فتأتي سورة طه (ورتبتها 45) لتبين أن الغرض من "القرآن"، ليس تعريض النبي لإيذاء قريش بل هو "تذكرة" لمن يخشى": يقول تعالى: "طه. مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى، إِلا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى" (طه 1/4)، ولتؤكد أيضاً ما سبق تقريره في سورة القيامة (رتبتها 31) وهو طمأنة النبي بأن الله يتولى (بواسطة جبريل) تحفيظه القرآن وأنه لا ينبغي له أن يخاف من أن يضيع منه شيء، خصوصاً وهو يتلقاه مقروءاً وليس مكتوباً. قال تعالى: "وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا" (طه 114). وشيء آخر أوضحته هذه السورة وهو أن معنى "الذكر" و"التذكرة"، و"ذكرى" ينصرف أيضاً إلى الإخبار عما جرى للأقوام الماضية، فهو بمعنى "القص"، وأن الهدف من القصص في القرآن هو نفسه الهدف من الذكر، يقول تعالى: "كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ، وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا" (طه 99). وهكذا يتضح بالتدريج ومن خلال السياق أن الذكر خاص والقرآن عام. الذكر جزء من الوحي المحمدي، أما القرآن فهو هذا الوحي بجميع أجزائه، الذي يقرؤه جبريل على النبي محمد ليبلغه للناس. على أن الذكر القرآني لا يقتصر على قص أخبار الأقوام الماضية والتذكير بها ولفت الانتباه إلى مواطن العبرة منها، بل يضيف إلى ذلك –في الغالب- عنصراً آخر هو الوعد لمن اتبع الذكر واستخلص العبرة منه، والوعيد لمن أعرض عنه. أما الوعد ففي مثل قوله تعالى: "إِنَّمَا تُنذِرُ مَنْ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَانَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ" (يس 11 ورتبتها 41)، وأما الوعيد ففي مثل قوله تعالى حكاية عن الظالم "يوم يعض على يديه" يوم القيامة ويقول: "يَاوَيْلَتِي! لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلاً، لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنْ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإنسَانِ خَذُولا" (الفرقان 28/29، ورتبتها 42). وكما ينصرف معنى "الذكر" إلى القرآن نفسه كما في قوله تعالى: "وَقَالُواْ يا أَيُّهَا الذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ"، وقوله وكأنه يرد عليهم: "إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ" (الحجر 6/9 ورتبتها 54)، ينصرف كذلك إلى الكتب المنزلة قبله. قال تعالى: "وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ (أهل الكتاب) إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ، بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُر" (أرسلناهم). (النحل 43/44 ورتبتها 70)، وقوله: "أَمْ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ، هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِي (أي القرآن الموجه إلى قومي) وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي (وفيه أيضاً الذكر الموجه إلى من قبلي، في التوراة والإنجيل)، بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ، فَهُمْ مُعْرِضُونَ" (الأنبياء- 24 ورتبتها 73). وهكذا، فسواء اتخذ خطاب الوعد والوعيد في قرآن الذكر والقص صيغة الخصوص، متوجهاً بصورة صريحة إلى خصوم الدعوة المحمدية من أهل مكة، أو جاء على صيغة العموم بحيث ينصرف المعنى إلى الماضي والحاضر والمستقبل وإلى جميع الأقوام، أو اتخذ صيغة "إياك أعني واسمعي يا جارة"، فهو يتوخى دائماً إقامة الحجة ضد المكذبين، المعرضين عن الدعوة المحمدية.