عندما كان العرب في ذروة المواجهة مع إسرائيل كان وصف دولة العصابات الصهيونية يتردد كثيراً منسوباً لإسرائيل. ومثلت هذه النوعية من الشعارات مصدراً لانتقادات قاسية وجهت لهم بعد هزيمة 1967 على أساس أنهم طالما استخفوا بإسرائيل بغير أساس، لكن ذلك الوصف لم يكن ينطلق من استخفاف بها بقدر ما كان ينطوي على إدانة أخلاقية لها، فدولة العصابات لا يمكن لها سوى أن تسلك سلوك عصابات الإجرام، وها نحن بعد أن مرت عقود على "النضج" السياسي الذي لحق بالعرب وجعلهم يقبلون التعايش معها بل ويهرول بعضهم إليها نعود إلى الوصف القديم نفسه مع فارق في هذه المرة، وهو أن من أطلقوا هذا الوصف ليسوا عرباً. هكذا كتبت صحيفة "هآرتس" في افتتاحيتها "إن الاعتقال بغرض المساومة هو سلوك يليق بعصابات لا بدولة". قد يقال إن إسرائيل ترد على الفعل بمثله، فكما اختطف الفلسطينيون جندياً إسرائيلياً تختطف إسرائيل نواباً ووزراء منهم، ويظهر مثل هذا المنطق أهمية التأكيد على التكييف السليم لما يجري على أرض فلسطين: حرب تحرير وطنية تشنها طلائع لشعب محتل ضد غاصبي حقوقه وليس أعمال عنف بين طرفين تندرج في سياق الحرب على الإرهاب، ففي ظل هذا التكييف الأخير يصبح المقاومون الفلسطينيون مجرد خاطفين لجندي يمكن ابتزازهم بالأسلوب نفسه، لكن النظر إلى المسألة باعتبارها حرب تحرير وطنية مشروعة تجعل من هذا الجندي أسيراً وتستبقي وصف الخطف للعمل الذي قامت به "العصابات" الحاكمة في إسرائيل التي شهد شاهد منها بأنها تضم "أساتذة في الاختطاف" كان ضحاياهم ممثلي شعب اختارهم بملء إرادته في انتخابات ديمقراطية أكد السلوك الإسرائيلي أنها لم تعد تكفي لخلاص الفلسطينيين من محنتهم وأن الخلاص يجب أن يتجه إلى هدف إزالة الاحتلال أولاً. نسي الشاهد الإسرائيلي أن يضيف تخصص القتل إلى الاختطاف، وآخر شواهد براعتهم فيه هو عملية شاطئ غزة. وكم يتمنى المرء على المقاومة الفلسطينية أن تكون كافة عملياتها في المستقبل متجهة إلى جيش الاحتلال حصراً حتى يصبح التناقض في الصورة تاماً: شعب يقاتل جيش احتلال ودولة عصابات تبيد شعباً. لا تنطوي الأحداث على هذه الدلالة وحدها وإنما يظهر إمعان النظر في رد الفعل الإسرائيلي المبالغ فيه لأسر الجندي الإسرائيلي أمرين على الأقل: أولهما أن العقلية الإسرائيلية تريد أن ترسخ نموذجاً للعلاقة مع الفلسطينيين –والعرب كافة في حقيقة الأمر- ينطوي من حيث جوهره على صفة التفوق المطلق للطرف الإسرائيلي والإذلال التام للطرف الفلسطيني، وفي إطار هذا النموذج يسمح لإسرائيل بأن تقتل رجال الفلسطينيين ونساءهم وشيوخهم وأطفالهم دون تمييز بينما تقوم الدنيا ولا تقعد عندما يقع جندي إسرائيلي في الأسر، فيجعل الفلسطينيين ولو للحظة في موقع الند الذي يفاوض من أجل الإفراج عن أسراه، بل إن إسرائيل تبدو أكثر عصبية في ردود أفعالها لأسر الفلسطينيين لأحد جنودها منها إزاء وقوع قتلى بين صفوف هؤلاء الجنود أو حتى بين المدنيين ربما لأنه في الحالة الثانية يسهل وصف الفلسطينيين بالإرهاب أما في الحالة الأولى فإن الفعل الفلسطيني يساعد على كشف العورة البغيضة للاحتلال الإسرائيلي وأسر الآلاف بغير ذنب أو سند من القانون. ومن ناحية ثانية فإن رد الفعل الإسرائيلي المبالغ فيه ربما كان يشير إلى ارتباك واضح في الداخل الإسرائيلي، فأولمرت فيما يبدو يعتبره اختبار العمر، ويعتقد أن مستقبله السياسي مرهون بنجاحه في إدارة هذه الأزمة، وهو يتخبط بين قمة العنف الذي يبدو معه أن "صاحب البيت قد جن جنونه"، وفقاً لأحد التعليقات الإسرائيلية، وبين ضبط النفس المتمثل في تعليق الاجتياح الواسع النطاق لغزة، وهو القرار الذي أثار بدوره ردود فعل سلبية في أوساط الجيش الإسرائيلي مع أنه يجب أن يكون أكثر الأطراف دراية بتعقيدات مثل هذا الاجتياح. أما الرأي العام الإسرائيلي فقد أظهر استطلاع له أجرته صحيفة "يديعوت أحرونوت" أن غالبيته (53%) تعتبر أن التفاوض مع الفلسطينيين والضغوط الدولية التي تمارس عليهم خير وسيلة لاستعادة الجندي الإسرائيلي، ويزيد من هذا الارتباك في الساحة الإسرائيلية أن أولي العقول يعرفون جيداً أن إسرائيل قد جربت العنف المفرط تجاه الفلسطينيين مرات كثيرة في مواقف مماثلة، فلم تكن ثمرته سوى مزيد من صلابة الفلسطينيين وصمودهم. فلِمَ تكون "أمطار الصيف" بالذات عقيمة عن أن تروي شجرة المقاومة؟ لا أحد يدري على وجه اليقين كيف يمكن أن تنتهي الأزمة الراهنة، لكن الخبرة الماضية تشير إلى أن النخبة الحاكمة في إسرائيل ليست جاهزة حتى الآن لتسوية حقيقية وبالتالي فهي على غير استعداد لتقديم أية تنازلات جوهرية حتى ولو كانت لقيادات معتدلة مثل محمود عباس، ومن ثم فإن المقاومة تصبح هي الخيار الوحيد أمام الشعب الفلسطيني الذي أثبت في الانتخابات التشريعية الأخيرة وما تلاها أنه مصمم على هذا الخيار، بل إن دوائر أميركية، وفقاً لبعض المصادر، باتت تخشى من أن تؤدي ردود الفعل الإسرائيلية المبالغ في عنفها إلى زيادة تأييد الشعب الفلسطيني لخيار المقاومة، وفي مواجهة المقاومة وقبلها، تمارس إسرائيل أقصى درجات العنف قتلاً وتشريداً وهدماً وتجريفاً وتهديداً لكل مظاهر الحياة على أرض فلسطين. ومع ذلك، ووفقاً لشهادة ذوي العقول أنفسهم من المحللين والمراقبين بل والإسرائيليين العاديين، فإن كل هذا العنف لن يجدي، فالمقاومة ستستمر، وحتى إن هدأت فذلك سيكون إلى حين بحيث تعود أقوى وأكثر تطوراً مما كانت عليه كما تشهد بذلك كافة العمليات النوعية التي نفذتها المقاومة في السنوات القليلة الماضية وآخرها العملية التي أفضت إلى الأزمة الراهنة. معنى هذا أنه إذا كان الفلسطينيون في مأزق فإن إسرائيل بدورها تواجه مأزقاً حقيقياً، ولا يهمنا المأزق الإسرائيلي بطبيعة الحال، وإنما يعنينا أن الأزمة الراهنة تزيد من ضرورة الإسراع بحل المعضلات التي تعترض مسار النضال الفلسطيني في الوقت الراهن. لقد أثبتت فصائل المقاومة في الشعب الفلسطيني مجدداً قدرتها على إعلاء التناقض الرئيسي مع العدو المحتل على أية تناقضات ثانوية بينها عندما وفقت في الحوار الوطني الذي سبق الأزمة الراهنة مباشرة، وعليها أن تكمل بأقصى سرعة ممكنة مهمة تطوير منظمة التحرير الفلسطينية بحيث تصبح بحق إطاراً جامعاً لكافة القوى الفلسطينية من شأنه أن يزيد من قدرتها على النضال السياسي والعسكري معاً بل والنضال بكافة السبل والوسائل، كما أصبح ضرورياً أكثر من أي وقت مضى أن تتم مناقشة تجربة السلطة الوطنية الفلسطينية في ظل استمرار الاحتلال، خاصة بعد أن تنكرت سلطاته تماماً لاتفاقية أوسلو التي بنيت هذه السلطة على أساسها. ولقد أظهرت الأزمة الراهنة بالنسبة لـ"حماس" ما كانت أزمات سابقة قد أظهرته بالنسبة لـ"فتح" عندما كانت في السلطة، وهو أن مقاعد السلطة تقوض من إمكانات المقاومة أو على الأقل تجعل المقاومة في السلطة هدفاً أسهل بكثير منه خارجها، وإذا اتفق على قصور التجربة فإن التفكير في البدائل يصبح ضرورياً وهذه قضية أخرى ليس الآن الوقت المناسب لمناقشتها. أما الضمير العالمي والنظام العربي فليحافظا على حالة السكون التي ينعمان بها حتى يفيقا على تجاوز التطورات والأحداث لهما، وتقدم قوى جديدة إلى الصدارة لكي تملأ الفراغ الذي أبى كل منهما أن يملأه.