يمكن وصف الرئيس الجورجي ميخائيل سكاشفيلي بأنه شاب عجول متسرِّع. فمنذ توليه المنصب الرئاسي عبر "الثورة الوردية" منذ ما يقارب الثلاث سنوات تقريباً, حث خطى اتجاه بلاده نحو الغرب, على أمل إيجاد موطئ قدم لها في كل من حلف "الناتو" والاتحاد الأوروبي قبل أن تخبو جذوة "الثورة الوردية". وفي لقاء صحفي معه أعرب الرئيس سكاشفيلي عن استيائه من تكرار تعليقات الأوروبيين الذين يلتقيهم في زيارات رسمية إلى جورجيا بقولهم: يا لشبه بلادكم بأوروبا في كل شيء تقريباً! وما دفع الرئيس للتعبير عن استيائه, اعتقاده بأن جورجيا ليست شبيهة بأوروبا, وإنما هي أوروبا بعينها... فلمَ إذن المطالبة بإثبات هذا للآخرين في كل مرة؟! غير أن الوقت ربما لا يكون في صالح سكاشفيلي ولا نظرائه في كل من جمهوريات أوكرانيا ومولدوفا وأذربيجان التي شقت عصا الطاعة وأعلنت خروجها عن عباءة موسكو في مرحلة ما بعد العهد السوفييتي, وشرعت تتطلع إلى المزيد من الفرص الاقتصادية والسياسية تحت عباءة الغرب. وتبرز مشكلة الوقت هذه بشكل خاص, بسبب الضغوط المتعاظمة التي تمارسها روسيا على هذه الجمهوريات بغية ردها عن مسارها الحالي, بما في تلك الضغوط, التحريض الداخلي المناوئ لهذا الاتجاه, بدعم من موسكو, وكذلك التهديد بالمقاطعة التجارية الاقتصادية, إضافة إلى التهديد بقطع الوقود والطاقة عنها. يذكر أن سكاشفيلي سيلتقي الرئيس جورج بوش اليوم الثلاثاء في مقره بالبيت الأبيض. ومن المتوقع أن يطلب الرئيس الجورجي من نظيره الأميركي دعم واشنطن لطموحات جورجيا للانضمام إلى "الناتو" والاتحاد الأوروبي, عند انعقاد قمة الدول الثماني الكبرى في الخامس عشر إلى السابع عشر من شهر يوليو الجاري. تعليقاً منه على هذا الحدث المهم قال سكاشفيلي: أعتقد أن من الواجب أن تدور قمة الدول الثماني الكبرى المقبلة حول القيم التي أنشئت من أجلها المنظمة. وأشار سكاشفيلي إلى الإنجازات التي حققتها جورجيا خلال الثلاث سنوات الماضية, سواء في اتجاهها نحو الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان, أو في تبنيها لقيم التحرر الاقتصادي. وأعرب ساكشفيلي عن أمله في أن تسفر القمة المرتقبة عما يمكن جورجيا من تحقيق طموحاتها. وكان اتحاد الجمهوريات الأربع الإقليمي الذي يحمل اسم "جوام" ويضم كلاً من جورجيا وأوكرانيا وأذربيجان ومولدوفا, قد جدد عزمه على نشر وتعزيز الديمقراطية والتعاون الاقتصادي, مع الاستمرار في تحقيق المزيد من التكامل والاندماج مع أوروبا, مقابل الابتعاد التام عن روسيا. وبهذا الإعلان إنما يزداد الصدع بين موسكو وهذه الجمهوريات, إثر تمردها جميعاً على علاقات هيمنة ما بعد العهد السوفييتي. وعلى نقيض هذه الجمهوريات تماماً, تبدي كل من بيلاروسيا وأوزبكستان, تقارباً أكبر مع روسيا, خاصة وأن هذه الأخيرة تقبل فيما يبدو بالأنظمة الشمولية المستبدة الحاكمة هناك, علاوة على تأييدها لسياسات الاقتصاد الحكومي السارية في الجمهوريتين المذكورتين. وكما جاء في تعليق ألكساندر شوشكو، مدير أبحاث "المعهد المستقل للتعاون الأوروبي الأطلسي" في كييف، فإن ما يحدث بين الجمهوريات المستقلة وموسكو, إنما هو تباين في رؤى المستقبل واتجاهاته بين الجانبين. فمن ناحية تريد موسكو الإبقاء على موقعها باعتبارها مركزاً للسلطة والنفوذ مستقلاً ومتمايزاً عن الغرب, مع الإبقاء على منطقة ما بعد النفوذ السوفييتي السابق موحدة ومتكاملة تحت مظلتها هي. ومن الناحية الثانية, تتمسك جمهوريات "جوام" بموقفها الرافض لاتجاه روسيا تماماً, وبالقول إنه ليس ثمة وجود البتة لما يسمى بمنطقة ما بعد النفوذ السوفييتي. وكان طبيعياً أن تأتي ردة فعل موسكو غاضبة على هذا التحدي, لاسيما إزاء تعبير كل من جورجيا وأوكرانيا عن رغبتهما في الانضمام لحلف "الناتو". فـ"الناتو" على حد قول "أوليج بوجمولوف"، المدير الفخري لمعهد الاقتصاد العالمي والدراسات السياسية في موسكو، هو الأداة التنفيذية لسياسات أميركا الخارجية والعسكرية في أوروبا. ومن هنا فإنه ليس في وسع روسيا فهم الدوافع وراء رغبة "الناتو" في توسيع نطاقه ونفوذه شرقاً. كما يُشْكِل عليها فهم الأسباب التي تدفع واشنطن بكل هذا القدر, إلى تفتيت وشرذمة منطقة نفوذ ما بعد العهد السوفييتي! إلى ذلك كانت موسكو في وقت مبكر من العام الجاري, قد فرضت مقاطعة تجارية على واردات جورجيا من النبيذ والمياه المعدنية بدعوى ذرائع صحية غامضة واهية أثارتها تبريراً لهذه الخطوة, مع العلم بأن هذين المنتجين يعدان أكبر صادرات جمهورية جورجيا ومورداً مهماً من موارد دخلها القومي. وليس ذلك فحسب, بل واجه نحو 1.5 مليون عامل من العمال الجورجيين الذين يعملون في روسيا بصفة "عمالة زائرة", عنتاً ومشقة كبيرتين في الحصول على تأشيرات الدخول خلال الأشهر القليلة الماضية. كما تشمل الضغوط نفسها, دعم موسكو لنشاط منطقتين انفصاليتين داخل الحدود الجورجية, هما أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية. ومن رأي الكثير من المراقبين أن هذا الدعم يشكل وجهاً آخر لمساعي موسكو المستمرة لتخويف تبليسي وثنيها عن مطامحها الرامية للالتحاق بفلك النفوذ الغربي. يجدر بالذكر أن موسكو تمارس ضغوطاً مشابهة على بقية الجمهوريات المتمردة عليها. وعلى رغم أن جورجيا تعد الأكثر حماساً لهذا الالتحاق, إلا أنها تتسم بكونها أضعفها في ذات الوقت. وهذا ما يجعلها أكثر عرضة للضغوط وقابلية للرضوخ والانصياع. فريد فاير وداريا فيزمان ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مراسلا صحيفة "كريستيان ساينس مونيتور" في تبليسي- جورجيا ينشر بترتيب خاص مع خدمة "كريستيان ساينس مونيتور"