السيناريو الدائر في الأراضي الفلسطينية مألوف في مجمله بحيث ألِف على رؤيته القاصي والداني، واعتاد على تجرع مراراته سكان تلك الأراضي. فالطائرات الإسرائيلية لا تكف عن التحليق فوق رؤوس الفلسطينيين، فيما المتحدثون الرسميون العرب يطلقون التنديدات بـ"جرائم إسرائيل ضد الإنسانية"، يضاف إليهم الدبلوماسيون الغربيون والأمم المتحدة في إطلاق النداءات الجوفاء المطالبة بضبط النفس. غير أن الاجتياح الإسرائيلي الجاري حالياً في قطاع غزة لا يشبه في شيء الحملة العسكرية الكبرى التي شنتها إسرائيل ضد الفلسطينيين قبل أربع سنوات. ففي تلك الحملة العسكرية خاضت القوات الإسرائيلية معارك شرسة من شارع إلى آخر في مخيم جنين، وقصفت طائراتها مقرات الشرطة الفلسطينية، فضلاً عن مكاتب السلطة الفلسطينية نفسها. والهدف من وراء ذلك كان تدشين مرحلة جديدة في السياسة الإسرائيلية تقوم على الأحادية وفرض حلولها الخاصة على الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي. وقد رأينا كيف اعتمدت تلك السياسة على الانسحاب من الأراضي المحتلة وبناء سور يراد له أن يرسم الحدود النهائية لإسرائيل، فضلاً عن رفض التفاوض مع القادة الفلسطينيين، من الأساس. الاجتياح الحالي لقطاع غزة الذي يقوم على نوع من التمييز بين الأهداف الفلسطينية، وفتح المجال إلى حد ما أمام الوساطة الدبلوماسية يختلف عن سابقه من حيث إنه إعلان صريح عن انتهاء السياسة الأحادية، بالطريقة السابقة. فقد لا تكون إسرائيل مستعدة في هذه اللحظة لبدء مفاوضات مع الفلسطينيين، لكنها ما لم تبادر إلى ذلك فسيتعذر عليها استكمال انسحابها من الأراضي الفلسطينية، أو استعادة الأمن النسبي الذي ساد إسرائيل طيلة الثمانية عشر شهراً الماضية. وبالطبع من غير المرجح أن يعترف رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت بالمستجدات الأخيرة، ذلك أن صعوده إلى السلطة إنما جاء أصلاً على أساس برنامج سياسي يروج لمقولة إعادة نشر القوات الإسرائيلية والمستوطنين اليهود في الضفة الغربية. هذه السياسة التي جدد تأكيده لها في الشهر الماضي أمام الصحفيين، مشدداً على ضرورة استكمال الانسحاب أحادي الجانب. وفي كل ذلك كان أولمرت يحاول جاهداً إتمام ما بدأه سلفه أرييل شارون عندما أمر الدبابات الإسرائيلية باجتياح الضفة الغربية في أبريل 2002. ففي فترة سابقة كانت إسرائيل منهمكة في التفاوض مع الفلسطينيين للتوصل إلى السلام، أو على الأقل إنهاء حالة العنف المستمرة بين الطرفين، استناداً إلى اتفاقات "أسلو" الموقعة سنة 1993. لكن بقدوم شارون إلى الحكم تغيرت الخطة وأصبحت تقتصر على إنهاء مشروع "أسلو" الفاشل وتدمير البنية التحتية للسلطة الفلسطينية باستهداف مقراتها وقوتها الأمنية في أفق التمهيد لفرض حل إسرائيلي غير قابل للتفاوض. وقد وصلت خطة شارون ذروتها عندما أعلن في شهر أغسطس الماضي نيته سحب القوات الإسرائيلية والمستوطنين اليهود من قطاع غزة بدعم من الولايات المتحدة دون أن يصاحبه أدنى تنسيق مع الحكومة الفلسطينية. وبينما كان شارون يخطط لإتمام مشروعه بتنفيذ الانسحاب من الضفة الغربية لم يمهله القدر في شهر يناير بجلطة دماغية أبعدته عن الحياة السياسية. وترى نظرية شارون في الانسحاب أحادي الجانب التي سعى أولمرت إلى استكمالها أنه ما إن تنجح إسرائيل في فصل اليهود عن الفلسطينيين وإقامة حدود محصنة حتى تنعم الدولة العبرية بنوع من السلام لفترة طويلة، على الأقل بالنسبة للسكان المدنيين داخل إسرائيل. بيد أن السياسة الأحادية التي عول عليها شارون ومن بعده أولمرت كانت تسير هي الأخرى بخطى ثابتة نحو الفشل حتى قبل العملية الأخيرة التي نفذها الفلسطينيون ضد موقع عسكري إسرائيلي وأسفرت عن مقتل جنديين وخطف آخر. فقد شهدت الشهور الأخيرة إطلاق أكثر من 600 صاروخ على إسرائيل من المناطق التي تم إخلاؤها في قطاع غزة. ولم تفلح إسرائيل من خلال قصفها المتكرر للأراضي الفلسطينية، واتباعها سياسة الاغتيالات الموجهة، في وقف إطلاق الصواريخ التي باتت تزعج السلطات الإسرائيلية وتقض مضجعها. والنتيجة أن التأييد داخل إسرائيل نفسها انحسر لتنفيذ أي انسحاب آخر يشمل هذه المرة الضفة الغربية، حيث أظهرت بعض استطلاعات الرأي التي أجريت مؤخراً أن الغالبية العظمى من الإسرائيليين تعارض خطة الانسحاب من الضفة الغربية. ومن جانبهم يبدي العرب ومعهم الإدارة الأميركية قلقاً واضحاً من أن تنتقل الفوضى التي عمت قطاع غزة منذ أغسطس الماضي إلى الضفة الغربية في حالة الانسحاب الإسرائيلي منها. وفي هذا الصدد أوضح المسؤولون الإسرائيليون أن ثمة في المنطقة من أبدى معارضة شديدة لخطة إعادة الانتشار خشية سيطرة "حماس" على الضفة الغربية، أو تركها دون سلطة تغرق في الفوضى. وحتى في زيارة أولمرت الأخيرة إلى واشنطن والعواصم الأوروبية سمع رسالة واضحة تدعوه إلى البحث عن سبل للتنسيق مع الرئيس الفلسطيني محمود عباس بشأن الانسحاب من الأراضي المحتلة. ويمكن رصد التراجع الإسرائيلي الخافت عن السياسة الأحادية حتى قبل الأسبوع الماضي، حيث يمكن تعقب آثارها في اللقاء الأخير لأولمرت مع محمود عباس، وموافقة الحكومة الإسرائيلية على جهود الدول الأوروبية الرامية إلى توفير الخدمات الأساسية للفلسطينيين بعد قطع التمويل عن حكومة "حماس". كما أن محاولات إسرائيل دعم محمود عباس على حساب حكومة "حماس" أصيبت بانتكاسة كبيرة عندما عجز الرئيس الفلسطيني عن الإفراج عن الجندي الإسرائيلي المختطف، ما دفع إسرائيل إلى التحرك العسكري بغلظة. والملاحظ، هذه المرة على خلاف الاجتياح السابق، لم تستهدف إسرائيل مباشرة القوات الأمنية التابعة لمحمود عباس، كما أنها ابتعدت عن مخيمات اللاجئين، وهي أيضاً اعتقلت قادة "حماس" بدل اللجوء إلى قتلهم كما في المرات السابقة، ذلك أن أولمرت والجنرالات في إسرائيل يدركون جيداً أن انسحابهم من غزة بعد دخولها مجدداً قد لا يتم دون عقد صفقة ما مع محمود عباس، بل وحتى مع "حماس". جاكسون ديل ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كاتب ومحلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"