كانت الجزائر في تسعينيات القرن المنصرم -بمثابة عراق العالم العربي اليوم- تمزق أحشاءها حرب أهلية شرسة تدور رحاها بين الحركة الإسلامية الصاعدة، وفرق الموت التابعة للجيش، مسفرة عن مقتل أكثر من 100 ألف شخص. وبالنسبة للعديد من المراقبين كان النموذج الجزائري تجسيداً صادقاً للجحيم وقد أطلقت نيرانها على الأرض بين البشر. غير أنه في السنوات الأخيرة بدأت الجزائر تروج لنفسها من خلال نموذج آخر مختلف يسير على طريق المصالحة الوطنية بعد سنوات الحرب الطويلة. وفي هذا السياق يلفت المسؤولون الأميركيون الانتباه إلى النموذج الجزائري باعتباره مثالاً يمكن استلهامه لإنجاح جهود المسؤولين العراقيين في تحقيق مصالحتهم الوطنية. لكن بإجرائنا لعدد من اللقاءات مع الجزائريين الذين تأثروا بسنوات سفك الدماء سواء كانوا من الضحايا، أم من المتورطين، يظهر أن الحديث عن النموذج الجزائري في المصالحة مازال صعب التحقق. فالقليل منهم أبدى ارتياحه لما يجري، كما أن العنف لم يتوقف تماماً، حيث عشرات الأشخاص يلقون حتفهم شهرياً حسب ما ينقله الصحفيون المتابعون للشأن الداخلي في الجزائر. "شريفة خضرا" التي شهدت مقتل أخيها وأختها من قبل المتطرفين الإسلاميين سنة 1996 قالت "لقد وصلنا إلى مرحلة يتم فيها الإفراج عن المجرمين، بينما الأشخاص الذين يعارضون ذلك يزج بهم في السجن". ويعتمد النموذج الجزائري على قانون للمصالحة الوطنية سبق أن نال الموافقة الشعبية في استفتاء عام وصودق عليه في شهر مارس الماضي يتم بموجبه إطلاق سراح الآلاف من المقاتلين الإسلاميين الذين أدينوا في جرائم قتل، وفي نفس الوقت فرض الصمت على الضحايا، فضلاً عن أن القانون يوفر مظلة لحماية فرق الموت الحكومية التي كانت متورطة في العنف ومنع متابعتها. ويسعى القانون أيضاً إلى تقديم الدعم المالي للإسلاميين الذين يتم الإفراج عنهم لمساعدتهم على بدء حياة جديدة، بل يحاول جاهداً محو كلمة "إرهابي" من الخطاب الوطني. وبالنسبة لمن حزت رؤوسهم، أو حزوا رؤوس الغير، فقد أصبح يشار إليهم في الخطاب السياسي كـ"ضحايا للمأساة الوطنية". ومقارنة مع النماذج السابقة للمصالحة الوطنية التي شهدتها دول أخرى مثل جنوب إفريقيا واستغرقت وقتا طويلاً تم خلالها الاعتراف بالخروقات مقابل العفو العام على المتورطين، لم تكن المصالحة الجزائرية سوى محاولة متعجلة لطي صفحة الماضي دون قراءتها على نحو جيد. وهو ما يثير غضب العديد من الضحايا الذين ذاقوا الويلات في عقد التسعينيات حين كان العنف الدموي يعصف بالبلاد. وفي هذا السياق تقول السيدة خضرا: "لقد كان موقفنا دائماً أنه على العدالة أن تأخذ مجراها أولاً ومن ثم ننظر في العفو، أما ما يحدث الآن فهو منح الفرصة للمئات من المتورطين في جرائم القتل للإفلات من العقاب". الإسلاميون أيضاً يشعرون بالاستياء تجاه قانون المصالحة، حيث حذر عبدالله العيادي، مؤسس الجماعة الإسلامية المسلحة، التي استهدفت العديد من الأجانب في البلاد ونقلت حملتها إلى أوروبا، من أنه دون "مصالحة حقيقية" ستزداد حدة التوتر في البلاد وسيتراكم الاحتقان تحت السطح، مضيفاً من منزله في الضاحية الجنوبية للعاصمة التي كانت معروفة في السابق بـ"مثلث الموت" بسبب الفظاعات التي ارتكبت فيها: "لن تندمل الجروح دون تسوية سياسية". وقد امتنع "العيادي" عن التطرق إلى تفاصيل السنوات السابقة عندما حمل السلاح في وجه الجيش، ملمحاً إلى أنه ما زالت لديه بعض الأسرار التي لا يستطيع البوح بها الآن والمجازفة بحريته التي نالها حديثاً. ولم ينسَ مؤسس الجماعة الإسلامية المسلحة التعبير عن أسفه لمقتل سبعة رهبان كانوا قد اختطفوا في محاولة للإفراج عنه بسبب فقدانه للسيطرة على جماعته بعد دخوله السجن سنة 1993. ومع ذلك جدد إيمانه بأن الجزائر تحتاج إلى دولة إسلامية رغم سنوات الحرب الطويلة. وبالنسبة له لا يشكل قانون المصالحة الوطنية سوى محاولة فاشلة من الحكومة لإيهام الناس بأن العنف انتهى، مشيراً إلى "الجماعة الإسلامية للدعوة والقتال" التي انشقت عن جماعته ورفضها لمبادرة المصالحة الوطنية، حيث مازالت تستقطب المئات من المقاتلين. وقد كان زعماؤها مثل حسن حطاب ومختار بن مختار مقاتلين سابقين في صفوف جماعته. علي بن حجار "الإسلامي" الذي فاز بمقعد برلماني في الانتخابات التي ألغاها الجيش قال حول قانون المصالحة الوطنية "إنهم لم يحلوا جذور المشكلة بعد، إنهم فقط يوزعون المال على الناس ويطلبون منهم التزام الصمت". ويؤكد بن حجار أن قانون المصالحة موجه بالأساس إلى الأجهزة الأمنية التي تورطت في عمليات القتل أكثر منها إلى المقاتلين الإسلاميين. فالقانون حسب رأيه يمنع المتضررين من متابعة الدولة قضائياً، لذا فإن "المصالحة تخدم النظام أكثر من غيره". ويعتقد بن حجار كما كثيرون غيره أنه ما لم تسمح الدول للإسلاميين بإقامة الدولة الإسلامية التي يتوقون إليها سيرجع العنف مجدداً. بيد أن الضحايا من المدنيين الذين قاسوا مرارة سنوات مديدة من العنف الأهوج يعتبرون القانون الجديد خيانة أخرى للأشخاص الذين فقدوا حياتهم. فقد قالت امرأة جزائرية في إحدى محلات بيع الكتب وسط العاصمة الجزائرية وهي تشير إلى صورة صاحب المكتبة البرتغالي الذي قتل على أيدي المتطرفين "لم يعد بإمكاننا الحديث عن فظائع الماضي، إنهم يريدون من الناس أن تنسى ما جرى". وفي العاصمة أيضاً طلبت السلطات من إحدى الكنائس إزالة صور معلقة تظهر الرهبان السبعة الذين ذبحهم المتطرفون لأن ذلك يعيق جهود المصالحة الوطنية في نظر السلطات. ـــــــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"