تلقيت هدية كتاباً يحمل عنوان "الفراشة واللهب"، واسم المؤلف د. مأمون البسيوني. الكتاب سيرة ذاتية للمؤلف، والمؤلف طبيب بدأ حياته السياسية مبكراً قبل ثورة يوليو عام 1952، وتعرض لأول تجربة للسجن في العهد الملكي عام 1951. بدأ المؤلف نشاطه السياسي بالانضمام إلى جماعة "الإخوان المسلمين" وتعرض للاعتقال بالسجن الحربي المصري ضمن مجموعات واسعة في أعقاب محاولة اغتيال الرئيس جمال عبدالناصر برصاصات شاب "إخواني" في ميدان المنشية بالإسكندرية عام 1954. المؤلف نفسه تعرض بعد إطلاق سراحه للاعتقال مرة أخرى، ولكن بصفته عضواً بأحد التنظيمات الشيوعية. من سياق السيرة الذاتية نفهم أن الأمر لا ينطوي على خطأ من السلطات، ولا يندرج في إطار التناقض، فلقد تكررت الحالات التي كان فيها الشبان في مصر قبل الثورة يبدأون نشاطهم السياسي في جماعة "الإخوان" ليتحولوا بعد حين إلى التنظيمات اليسارية بحثاً عن نظرية سياسية بعيداً عن الفكر الديني. جمال عبدالناصر نفسه مر بهذه الخبرة عندما اتصل قبل الثورة بـ"الإخوان" وأقسم يمين العضوية ثم اتصل بالتنظيمات اليسارية وهو في نفس الوقت يدير تنظيم الضباط الأحرار في الجيش. إذا علمنا أن مؤلف السيرة الذاتية قد تجاوز السبعين من العمر، وأنه يعلن أنه قد أقلع عن النشاط السياسي الحركي، نجد أنفسنا أمام كتاب للذكريات السياسية والمراجعات. المراجعة الأولى تتصل بالانفصال عن فكر "الإخوان المسلمين" والانضمام إلى الشيوعيين، أما الثانية فتتصل بالانفصال عن قرار اللجنة المركزية للحزب الشيوعي بإعلان حل الحزب والاندماج في التنظيم الطليعي الذي أنشأه جمال عبدالناصر ليضم كل الثوريين الاشتراكيين. أما المراجعة الثالثة فتتعلق بنقد التجربة السياسية الناصرية فيما يتعلق بالبطش بالقوى السياسية الأخرى، التي كانت شريكة في إنجاح الثورة بحضورها في الساحة المصرية وتمثيلها في الجيش وفي تنظيم الضباط الأحرار، وهو نقد يروي المؤلف في سياقه تجربة التعذيب المنظم الذي تعرض له مع زملائه "الإخوان"، ثم اليساريين في تجربتي الاعتقال بالمعتقلات في المرحلة الناصرية. أما المراجعة الرابعة، فهي مراجعة تتصل بأنماط السلوك الإنساني الذي يمكن أن تقوده حالة من الاعتزاز المفرط بالرأي أو بالذات أو حالة طفولة ثورية تسعى إلى استفزاز الآخرين أكثر مما تسعى إلى بناء موقف توافق وطني نافع وبناء. ومن ذلك النموذج قيام المؤلف عندما سمح له بأداء الامتحان وهو داخل السجن كطالب بكلية الطب، بملء ورقة الإجابة المخصصة لمنهج الفسيولوجيا بالنقد السياسي العنيف لنظام الثورة، وهو ما أدى بعد ذلك إلى حرمانه من أداء الامتحان من داخل السجن. ومن ذلك أيضاً أنه عندما سمع خطاب جمال عبدالناصر الذي أعلن فيه تأميم قناة السويس أصابته حالة إعجاب وتوحد مع القرار، ووجد فيه تعبيراً عن توجهاته السياسية، غير أنه قرر أن يكتب خطاباً إلى جمال عبدالناصر، بدأه باللوم والنقد لتجربة التعذيب في السجون، لينهيه بعبارة إعجاب بمن عذبه، لقرار التأميم. تجربة المراجعة السياسية والإنسانية الشاملة على هذا النحو، تستحق في تقديري، عناية كل الأطراف خاصة أن المؤلف معروف في دوائر "الإخوان المسلمين" واليساريين، شركاء نشاطه السياسي السابق، ولا يتمتع بنفس القدرة من الشهرة في أوساط الرأي العام الواسع. إن الأمم تصحح مساراتها من خلال المراجعات الأمينة، ومن خلال الاعتراف من كافة القوى بأخطائها في مراحل معينة وليس الاكتفاء بارتداء ثوب الضحية البريئة، التي اعتدت عليها قوى وطنية أخرى. وإذا كانت تجربة يوليو 1952 قد شهدت تفاعل قوى سياسية وفكرية ما زالت حاضرة وفاعلة بأسمائها وبعناصرها التاريخية حتى اليوم.. فإن صناعة مستقبل سياسي وطني أفضل تتطلب من هذه القوى، خاصة النظام السياسي الذي تأسس على الثورة و"الإخوان" و"الوفد" و"الحزب الناصري" وحزب "التجمع" اليساري، أن تفتح حلقة المراجعات اللازمة لتجربة يوليو لشق طريق أفضل للأجيال الجديدة.